بسم الله الرحمن الرحيم ، بدايةً لا يخفى علينا آثر الموسيقى في نفوسنا ، إما سلباً أو إيجاباً ، فتحولنا من حالٍ إلى حال إما من حزن إلى سعادة أو العكس ، فلو تفكرنا قليلاً وتسائلنا لماذا ؟ لإن لماذا سيكون أول سؤال يخطر على البال ، ومن بعد لماذا سيأتي الف سؤال وسؤال ، تزاحم بعضها البعض ، ماهي الموسيقى ؟ ، من أين بدأت ؟ والعديد من الاسئلة التي نمتنع عن تتبعها لنختصر بقدر الإمكان ، فمن هذا الباب ، أحببت توضيح عدة أشياء في هذه المقالة التي أكتبها ، مستمعاً لصوت صرير الرياح ، وحفيف الشجر ، وهدير الماء فوق الحجر ، ولصوت طيرٍ يغني بجهر ، لتخلق لي الطبيعة عزفاً يبعثني في عمق الآفاق ، وبجانبي طفل صغير يناغي نفسه ، بحديث غير مفهوم السياق . فنقول ماهي الموسيقى أولاً ،؟ فيجيبنا حكماء الزمان وفلاسفته : لما كانت العلوم الفلسفية أربعة أنواع ، أولها الرياضيات ، وثانيها المنطقيات ، وثالثها الطبيعيات ، ورابعها الإلهيات ، فالرياضيات أربعة أنواع : أولها الأرثماطيقي وهو معرفة خواص العدد ومايطابقها من معاني الموجودات ، وثانيها الجومطريا وهو علم الهندسة ، وثالثها الأسطرنوميا وهو علم النجوم ، ورابعها الموسيقى وهو معرفة تأليف الأصوات وبه استخراج أصول الألحان ، ومن هنا نقف على رأس موضوعنا وهو الموسيقى، نقول : إذا الموسيقى هي رابع العلوم الرياضية ويجب علينا البحث أكثر في ماهيتها وبدايتها وتأثيرها على النفوس الروحانية ، فيقول الحكماء إعلم ان كل الصناعات التي تعمل باليدين فإنها مادة ، إلا الصناعة الموسيقية فإنها كلها جواهر روحانية وهي نفوس المستمعين ، وتأثيراتها فيها كلها روحانية ، ولها كتأثيرات صناعات الصناع ، فمن تلك النغمات والأصوات مايحرك النفس نحو الأعمال الشاقة ، والصنائع المتعبة وينشطها ويقوي عزمها . لذلك علمنا بأن الموسيقى روحانية الجوهر وهي أقرب الأشياء للنفس فهي تشاكلها في الجوهر ، وإنبحثنا عن أنواع الموسيقى لوجدناها نوعين إما طبيعي أو صناعي ، فالطبيعي كصوت الطبيعة الخلابة جنان الأرض والنوع الأخر فصناعي ، فدعونا نبحث عن الصناعي وبدايته فنذكركم بإن الفلسفة ” هي التشبة بالإله حسب الطاقة البشرية ” فقامت الحكماء بمحاولاتها للتشبة بالإله حسب طاقتهم البشرية وذخر حكمتهم لهذه الغاية ، لخدمة البشر في سبيل التقرب لله ، فلما نظر الحكماء فوجدوا أنه ينبغي أن تتخذ موسيقاهم شكلاً يماثل الأمور الأربعة مثل العناصر الأربعة النار الهواء الماء والأرض ، فصنعوا وتر الزير مماثلاً لوتر النار ، ونغمته مناسبة لحرارتها وحدتها ، ووتر المثنى مماثل لركن الهواء ، ونغمته مناسبة لرطوبة الهواء ولينه ، ووتر المثلث ممثال لركن الماء ، ونغمته مناسبة لرطوبة الماء وبرودته ،والبم مماثل لركن الأرض ، ونغمته مماثلة لثقل الأرض وغلظها ، فكما نعلم أن العناصر الأربعة هي الأم لما في هذا الكون فلها على أجسادنا ونفوسنا تأثيرات ، فكان الهدف من صناعتهم هو التأثير على أجسادنا ونفوسنا بمثل تأثير هذه العناصر الأربعة ، فالزير يقوي خلط الصفراء وتزيده وتضاد خلط البلغم وتلطفه ، ونغمة المثنى تقوى خلط الدم وتزيد قوته وتأثيره ، وتضاد خلط السوداء وترقه وتلسنه ، ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم ، وتزيد تأثيره وتضاد خلط الصفراء ، ونغمة البم تقوي خلط السوداء وتزيد قوته وتأثيره وتضاد خلط الدم ، وتسكن فورانه ، فإذا ألفنا هذه النغمات المشاكلة للعناصر وجعلنها متوازنة كان علاجاً لأجسادنا ونقاءً وصفاء لأنفسنا ، وبعد أن ذكرنا هذا الشيء في سبيل معرفة أن للموسيقى تأثيراًجسمانياً وروحانياً ، يجب أن نذكر أن الموسيقى منها نافع ومنها ضار ، فالضار يعوق السامع وهي الأصوات الخارجة عن الإعتدال وقد استعمل الحكماء اليونانيون هذه الحيلة فصنعوا آلة يستعملونها عند ملاقاة الأعداء ، لها نغمات غير معتدلة وتسبب فقدان التركيز والتشتت والغضب ، ليظفروا بهم أثناء تخبطهم وعدم تركيزهم . وبعد أن بينا القليل من تأثيرات هذه الصناعة ننتقل للبحث عن بداية علم الموسيقى في عالم البشر ، ومن أول الحكماء بحثاً فيها وتبحراً في علمها ، فيقال : أن الحكيم فيثاغورس بصفاء نفسه وذكاءه سمع حركات الأفلاك والكواكب ، فكان أول من إستخرج أصول الموسيقى والنغمات ، وهو أول من تكلم بهذا العلم العميق وقد شبهها بأصوات العيدان ، وبعده نيقوماخس ، ثم بطليموس وأقليدس وقد كانوا يستخدمونها ليذكروا أرواح الناس بعالمها الروحاني ومحلها النوراني ، في سعة الأفلاك عالم الملكوت الأعلى ، ويحكى أن الحكيم فيثاغورس قد رأى في المنام لثلاثة أيام متتالية ، أن شخصاً يقول له قم إذهب إلى ساحل البحر الفلاني ، وحصّل هناك علماً غريباً ، فذهب من غد في كل ليلة من الليالي الثلاث ، فلم ير أحداً فيه ، وعلم أنها ليست رؤيا مما يؤخذ بها جدا فإنعكس ، وكان هناك جمع من الحدادين يضربون المطارق على تناسب فتأمل ثم رجع وقصد أنواع مناسبات بين الأصوات ولما حصل له ماقصده بعد تفكّر كثير وفيض إلهامي ، صنع آلة وشد عليها إبرسيماً وأنشد شعراً في التوحيد وترغيب الخلق في أمور الأخرة ، فأعرض بذلك كثير من الخلائق عن الدنيا ، وصارت تلك الألة معززة بين الحكماء ، فهذا ما كان من بداية علم الموسيقى أما بالنسبة لعالمنا العربي ، فيجب أن نذكر العالم الفيلسوف أبو نصر الفارابي ، فقد أبدع وتبحر في علم الموسيقى ، حتى أنه ألف الكتب ومن أشهر كتبه، كتاب الموسيقى الكبير ، الذي كان أول كتاب موسيقي باللغة العربية . ولأجل أن نبين تبحر هذا الفيلسوف العظيم وحذاقته في هذع الصنعة ، يجب أن نذكر طرفاً من معجزاته الموسيقية ، فيحكى أن رجلاً أن جماعة كانت من أهل هذه الصناعة مجتمعة في دعوة رجل رئيس كبير ، فرتب مراتبهم في مجلسه ، بحسب حذاقتهم في صناعتهم ، اذا دخل عليهم رجل رث الحال عليه ثياب رثه ، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم ، وتبين إنكار ذلك في وجوههم كأنهم معارضين هذه الفعله من صاحب المجلس ، فأراد أن يبين لهم فضله ، ويسكن عنهم غضبهم ، فيسأله ان يسمعهم شيئاً من صناعته ، فأخرج الرجل خشبات كانت معه فركبها ومد عليها اوتاره وحركها تحريكاً ، فأضحك كل من في المجلس من اللذة والفرح والسرور ، الذي داخل نفوسهم ، ثم قلبها وحركها تحريكاً آخر ، فأبكاهم كلهم من رقة النغمة وحزن القلوب ، ثم قلبها وحركها تحريكاً فنومهم كلهم ، وقام وخرج فلم يعرف له خبر . نعم هذا الرجل كان الحكيم أبو نصر الفارابي ، وكان صاحب المجلس هو الحاكم سيف الدولة الحمداني ، وكان الضيوف مابين فلاسفة وحكماء ، ورؤساء وحاشية وحراس فقد استطاع الفارابي بنقراته السحرية ونغماته البديعة ، اضحاكهم وإبكائهم وتنويمهم ، فالموسيقى لها اسرار لم تكتشف حتى الآن وبعد أن إنتهينا من بيان جوهرها وبدايتها وحكمائها ، يجب علينا أن نحتذي حذو فلاسفة اليونان حينما كانوا يشوّقون الناس في الهياكل لعالم الملكوت ، دار الخلود والقدس ، فنقول إعلم أن للكواكب والأفلاك ألحاناً شذية وأصواتاً عذبةً نقية ، متوازنة الأصوات لإستدارتها وثبات حركتها ، ودوام سيرها ، يخالطه لحن تسبيح الملائكة تقديساً وتهليلاً للباري سبحانه وتعالى ، فيكون أطيب من قراءة داؤود للزبور في المحراب ، فتفرح النفس وتسعد في عالم الملكوت الأعلى ، فإنجوا بنفسك من كدر المادة وتذكر عالمك الروحاني تشتاقه نفسك لتسعد وتفرح وتلذذ بهذه الموسيقى الروحانية ، حينما تكون عائماً سابحاً مسبحاً ، في سعة الأفلاك والكواكب تنظر لمن تحتك بعين الرحمة والرأفة ، وتنتظرهم ليصعدوا ليتحدوا معك فتزيد لذتكم بلقاء بعضكم البعض ، فرزقنا الله وإياكم سماع هذه الآلحان الذيذة ، والتسابيح العذبة الخالصة الشذية ،وفي الختام أحب أن أرفق بعضاً مما كتبت في الموسيقى، وبعضاً من حروف الفلاسفة والحكماء ، وأهل الصناعات الموسيقية ، فنبدأ بمن أتى بهذه الصنعة لعالمنا البشري صاحب الحكمة فيثاغورس حنيما سما بصفاء نفسه وذكاءه فيقول : إني لأسمع نغماتٍ شهية ، وألحان بهية ، من الحركات الفلكية وتمكنت تلك النغمات في خيالي وضميري ويقول المعلم الأول ارسطاطاليس : الموسيقى أسمى من أن تكون أداة للهو والسرور والتسلية ، ويقول أباه الروحي ومعلمه واستاذه الحكيم أفلاطون : من حزن فليستمع للاصوات الطيبة ، فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها ، فإذا سمعت مايطربها إشتعل منها ماخمد ويقول الشيخ الرئيس إبن سينا : خير تمارين العافية الغناء ويأتي ابن عبد ربه ليقول : زعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق فيصفو الدم ويرتاح له القلب وتهش له النفس وتهتز الجوارح وتخف الحركات ، ويقول ماريني الموسيقى هي صورة حياتنا الباطنية وإذا كان الكلام لغة العقل فالموسيقى لغة الشعور والوجدان وفي نهاية، ويأتي بتهوفن ليقول : الموسيقى هي الجمال المسموع والحلقة التي تربط الروح بالحس . ويأتي مجهولٌ ليقول إن الموسيقى نشيد ملائكة السماء ،
ومن باب محبتي وعشقي للموسيقى وتقديري لها أردف أقوالهم بما يشعرني أنني قدرتها حق قدرها ، فسبق وأن قلت : الموسيقى مهما حاولت إنكارها ، يبقى هناك شيء يستهويها ويتلذذ بها ويرغبها ، نعم إنها روحك المغربة ، فقد أتت من مكان يعج بالموسيقى الخيالية ، الموسيقى كفيلة بأن تجعلك كائناً آخر ، عندما تحزن فلا مانع من شرب القليل من نبيذ الموسيقى الفاخر ، لتسكر روحك فرحاً وتُراقص الكون ، وفي الموسيقى حياة ، لا يفهمها ذوي الأجساد ، موسيقارٌ يخلوا بنفسه فيعزفُ لها لحن الملائكة لترقصَ روحٌ قُرنت بظلامها ، وحدها الموسيقى تبهجك رغماً عنك والآن أترككم مع صاحبة العزف الرائع والصوت الفخم لورينا ماكينيت
بنج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق