الاثنين، 30 مايو 2016

السفسطائية

عندما تتوه في مدينة ما ، فإنك غالباً لن تسأل أحد الغرباء أمثالك ، بل حتماً ستحاول أن تجد أحد سكان هذه المدينة لتسأله ، فكما قال المثل : أهل مكة ادرى بشعابها ، لذلك في أي بحث حاول دائماً أن تجد شخصاً ضليعاً في الإختصاص الذي نال اهتمامك أو فيما أنت فيه باحث ، وطبق هذه القاعدة في جميع بحوثك ، إن كان مرادك بحثاً حقيقياً يرضي منالك .


وبما أن السفسطائية تتعلق بالفلسفة ، وأيضاً أصلها يوناني ، فيجب علينا أن نجد شخصاً ضليعاً في الفلسفة وفوق هذا يجب أن يكون ضيلعاً في اللغة اليونانية ، لذلك هل نختلف في أننا لن نجد كالفارابي مرجعاً قوياً لنا ؟!

فالفارابي هو الذي لقب بالمعلم الثاني نسبةً للمعلم الأول ارسطاطاليس ، والذي كان من أوائل الفلاسفة ترجمةً للكتب اليونانية وشرحاً للفلسفة الإغريقية الحقة ، والذي قال ابن سينا فيما عنى أنه قرأ كتاب مابعد الطبيعة مايقارب الأربعين مرة حتى حفظه لكنه لم يهتدي لفهمه إلا بعد أن قرأ كتاب الفارابي في أغراض مابعد الطبيعة "

فقد جاء في كتاب إحصاء العلوم للفارابي ذكر انواع مايجب أن يُستعمل القياس في المخاطبة في الجملة وأنها خمسة ، وهي برهانية ، وجدلية ، وسوفسطائية ، وخطبية ، وشعرية .

فيقول في السوفسطائية

" والاقاويل التي شأنها أن تغلط وتضلل وتلبس وتوهم فيما ليس بحق أنه حق وفيما هو حق أنه ليس بحق وتوهم في من ليس بعالم أنه عالم ناقد ، وتوهم في من هو حكيم عالم أنه ليس كذلك ، وهذا الاسم ، اعني السوفسطائية اسم المهنة التي يقدر الانسان المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والايهام إما في نفسه أنه ذو حكم وعلم وفضل ، أو في غيره أنه نقص من غير ان يكون كذلك في الحقيقة ، وإما في رأي حق أنه ليس بحق وفيما ليس بحق انه حق وهو مركب في اليونانية من [ سوفيا ] وهي الحكمة ومن [  اسطس ] وهي المموهه ، فمعناه [ حكمة مموهه ] وكل من له قدره على التمويه والمغالطة بالقول في شيء كان سُمي بهذا الاسم ، وقيل انه سوفسطائي ، وليس كما ظن قوم ان سوفسطا اسم انسان في الزمن القديم ، وان مذهبه كان ابطال الادراك والعلوم ، وشيعته الذين يتبعون رأيه فينصرون مذهبه يسمون سوفسطائيين ، وكل من رأى رأي ذلك الرجل ونصره سمي بهذا الاسم فإن هذا الظن غبي جداً فإنه لم يكن فيما سلف إنسان كان مذهبه إبطال العلوم والإدراك يلقب بهذا اللقب ولا القدماء سمو بهذا الاسم أحداً ، لأجل انهم نسبوه الى انسان كان يلقب سوفسطا ، بل انما كانوا يسموه انساناً بهذا الاسم لأجل مهنته ونوع مخاطبة وقدرته على جودة المغالطة والتمويه ، كائناً من كان من الناس ، كما لا يسمون الانسان جدلياً لأنه ينسب الى انسان كان يلقب بجدل بل سموه جدلياً لمهنته ونوع مخاطبته ، ولقدرته على حسن استعمال صناعته ، كائناً من كان من الناس . فمن كانت له هذه القوة والصناعة فهو سفسطائي ومهنته هي سوفسطائية وفعله الكائن عن مهنته سوفسطائي . 
 
 
لا أظن أن ماورد يحتاج لشرح أو توضيح أكثر ، فقد كان شرح الفارابي كافياً ووافياً ، فبيّن معنى الاسم ومما تركب وعلى من يطلق ولماذا يطلق ومتى يطلق .   


ثم إننا سنجد أن ابو نصر الفارابي قد قسم علم المنطق الى ثمانية أجزاء ، وكل جزء منها في كتاب ، فكانت كالتالي :
1 - قاطيغورياس بالعربية [ المعقولات ]
2 - باري امينياس بالعربية [ العبارة ]
3 - انطولوقيا الاولى [ القياس ]
4 - انطولوقيا الثانية [ البرهان ]
5 - طوبيقا [ المواضع الجدلية ]
6 -
[ والسادس فيه أولا الاشياء التي شأنها ان تغلط عن الحق وتلبس وتحير ، واحصاء جميع الامور التي يستعلمها المشنع والمموه وكيف تفسخ ، وبأي الاشياء تدفع وكيف يتحرز الإنسان من أن يغلط في مطلوباته أو يغالط ، وهذا الكتاب يسمى باليونانية [ سوفسطيقا ] ومعناه الحكمة المموهه 
7 - ريطوريقا [ الخطابة ]
8 - فيوطيقا [ الشعر ] .

فنلاحظ هنا أن الكتاب السادس كما شرح عنه الفارابي انه كتاب يختص لما قد يستخدمه السفسطائيين لتمويه الحكمة والحق وكيف يجب على الانسان تجنب الوقوع في مغالطاتهم ، وكيف يتجنب أن يكون سفسطائياً مغالطاً ، ولهذا نفهم هنا أن السفسطائي هو شخص لا يمت للفلسفة أو الحكمة والحق بصلة ، وإنما يريد أن يلبس الباطل رداء الحكمة ليوهم الناس بأنه حق ، ولهذا أُضيف هذا الكتاب الى علم المنطق ، ليتعلم المبتدئين كيف يموه السفسطائي ويضلل ، وكيف يستطيع الخصم مواجهته وإبطال سحره وفسخه . 

ومما يؤكد على ماقد ذكر فإننا سنجد أن ابن سينا قد لخص اقسام المنطق في خمسة أبيات شعرية فائقة الجمال ، وأتى لذكر التمويه والمغالطة التي هي السفسطة فيقول : 

الذايعات واللواتي تقبل ** فإنما موضوعهن الجدل
والذايعات بادي السماع ** فللخطابات وللإقناع
وذلك الوهمي والمشبه ** مغالطي علمه مموه
وذلك الموقع للتّخييل ** يصلح في الشعر سوى الدليل
فهذه ماقيل في التصديق ** والحمد لله على التوفيق


وإن أتينا لذكر بعض المواضع الصحيحة التي توضع كلمة سفسطائي أو سفسطة فيها ، فلن نجد أجمل من أبيات الفيلسوف والشاعر عامر بن عامر البصري مثالاً لهذا ، فقد قال :   

تفوق تيهاً بالمجالس معجباً
بوضع إصطلاحاتٍ له منطقيةِ

وآخر منهم في الُأصوليين ناظرٌ
يناظر عن وهمٍ بلجٍّ وجرأةِ

ومنهم بتقرير الخلاف مسفسط
يغالطُ في ألفاظه الجدليةِ



وبعد أن رأينا أين توضع كلمة السفسطة عند الفلاسفة الحق ، يجب أن علينا نذكر أن السوفسطائيين قد اشتهروا بمهارتهم في الخطابة والبلاغة ، فكانوا يجعلون السائل يتوه بطول الخطابة وانسجالها وبقوه البلاغة وجمالها ، لدرجة أن السائل قد ينسى عمّا سأل أصلاً ، ثم في النهاية عندما يجتمع ذهن السائل الذي أضاعه هذا السفسطائي بطول الاجابة وسحر الكلام ، فإنه يجد أنه ليس هنالك إجابه معينه أصلاً ، وإنما كان غرض السفسطائي أن يتهرب من الإجابة بطول خطابته وبلاغتها حيث يصبح السائل في دوامه ضخمة لا مثيل لها ، وهنا سيظفر السفسطائي بتشتيت الخصم وبتصفيق الجماهير وإنبهارهم ، كما حدث مع سقراط والسفسطائي بروتاجوراس .


وعلى ذكر بروتاجوراس الذي كان ممن اشتهر على انه سفسطائي وتمدح بذلك ، سيكون من الضروري أن يدعّم ما شرعنا في بيانه ، لذلك إخترت مقطع صغير من محاورة دارت بين الحكيم سقراط والصغير أبقراط إقتبستها من كتاب أفلاطون [ محاورة بروتاجوراس ] وسنتعلم منها إن شاء الله شيئين : فالشيء الأول والذي أراه مهماً جداً ، فهو كيف يجب على الإنسان أن ينتقي [ غذاء النفس ] لا سيما صغار السن ، أما الشيء الثاني ، فهو جزء من موضوعنا حول السوفسطائيين .

فعندما حضر أشهر السوفسطائيين الذي هو بروتاجوراس الى مدينة سقراط إنجذب إليه من شهرته وسمعته العديد من التلاميذ ، وقد كان الصغير ابقراط ابن أبوللودوروس من أشد المعجبين به ، فأتى في الصباح الباكر ليوقظ سقراط ويبشره بقدوم بروتاجوراس الى مدينتهم ، وكان مراده أن يطلب من سقراط أن يذهب معه لبروتاجوراس ليكون سقراط وسيطاً ليقبله كتلميذ عنده ، وقد كان ابقراط من عائلة غنية ، وكان مستعداً ليدفع من الأموال الكثير ليقبله بروتاجوراس تلميذاً عنده . 

وطبعاً كان بروتاجوراس يتاجر بمهنته التي هي السوفسطائية ، وسنتعلم أكثر عن السوفسطائية من النصوص الآتيه ، 


النص ***
ولكن يا أبقراط أليس السفسطائي في الحق بائعاً بالجملة أو بالقطعة لبضائع عليها تتغذى النفس ؟
أنا فيما يخصني أتصور أنه واحد كهذا ،
" وعلام تتغذى النفس ياسقراط ؟ "
فأجبت : على المعارف من غير شك ، ولا يجب ياعزيزي ، أن يخدعنا السفسطائي وهو يمدح مايبيع ، كما يفعل من يبيعون غذاء الجسد أي تجار الجملة أو تجار التجزئة ، فهؤلاء لا شك لا يعرفون إن كانت البضائع التي يتجولون بها مفيدة للجسد أم مضرة به ، ولكنهم مع ذلك يمتدحون كل مايبيعون ، كذلك فإن هؤلاء الذين يشترون منهم يجهلونه ، اللهم إلاّ إذا حدث بالصدفة وكان الواحد منهم متخصصاً في التربية البدنية أو كان طبيباً ، وهكذا الأمر أيضاً مع هؤلاء الذين يتجولون بالمعارف من مدينة الى اخرى ويبيعونها ويتسوقون بقطعها ويمتدحون لمن يرغب كل مايبيعون ، ولكن ربما يكون من بينهم يا أفضل الناس ، من يجهل ان كان مايبيع مفيداً للنفس أم ضاراً بها ، وكذلك الأمر أيضاً مع من يشترون منهم ، اللهم إلا اذا حدث بالصدفه وكان من بينهم طبيب في أمور النفس . والآن فاذا حدث وكنت عالماً بما هو طيب وخبيث في هذه الأشياء فإنك تستطيع بلا تردد أن تشتري تلك المعارف سواء عند بروتاجوراس أو من عند غيره أيا كان . أما اذا لم يكن هذا هو حالك ، فانتبه أيها العزيز الى انك تخاطر بأعز مالديك في لعب بالنرد . وذلك أن المخاطرة أعظم بكثير في شراء المعارف عنها فيما يخص الأطعمة ، فالأطعمة والمشارب التي تشتريها عند تاجر التجزئة وتاجر الجملة يمكن أن تحملها في أوعية اخرى ( غير الجسد ) ، وقبل أن ندخلها الجسد بشربها أو أكلها فإنه يمكن أن نضعها في المنزل أو نستشير الخبير الذي ندعوه لمعرفة اذا ماكان يمكن أن نأكلها أو أن نشربها أم لا وبأي مقدار وفي أي وقت . وهكذا فإن الخطر ليس كبيراً بشرائنا لها ، أما المعارف فإنه ليس ممكناً أن نحملها في وعاء مختلف غير النفس ، بل نحن نحمل المعرفة بالضرورة ، فور أن ندفع الثمن في النفس ذاتها بمعرفتنا سواء أكان في ذلك ضرر لنا أم نفع ، اذن فلنتدبر هذه الأمور ومع منهم أكبر منا سناً ، لأننا لا نزال صغار حتى نقرر في مثل هذا الأمر .


وبعد أن أخذنا هذه الحكمة العظيمة من سقراط حول إنتقاء وإختيار المعارف ، والشيء القليل عن السفسطائيين بلسانه ، سأرجع لبداية المحادثة بينه وبين أبقراط لأقتطف عدة أسئلة وجهها سقراط لأبقراط لنبين أكثر عما هو السفسطائي ،

النص ***
وأنت نفسك ماذا تريد أن تصير بذهابك للقاء بروتاجاروس ؟
وهنا أجاب أبقراط ووجهه يحمر لأن النهار بدأ يظهر وأصبح ممكناً أن أراه
" إذا كان هذا متشابهاً مع ماسبق ، فإنه من الواضح أن ذلك لأصير سفسطائياً " 
فقلت له : وأنت لا تخجل وحق الآلهه من أن تظهر أمام اليونان بصفتك سفسطائياً !؟


وهنا أحب أن أبين أن سقراط قد سأله لو ذهبت لتكون تلميذاً عند طبيب ماذا ستكون ؟ فيرد لاكون طبيباً ، ولو ذهبت لمعماري فماذا ستكون فيرد لأكون معمارياً ، فلو ذهبت لسفسطائي ماذا ستكون ؟
فقال سفسطائي ، وهنا نفهم أن أكثر السفسطائيين ومنهم بروتاجاورس لم يكن لهم إختصاص معين ، بل كانوا يبعيون كل شيء ولا أحد يعلم ما هذا الشيء ، لأن غرضهم المال في الأساس ، ولكن كان بعضهم يعلم الشعر والخطابة والجدال وكيف تموه وتغالط الخصم أي أنهم غالباً لا يبيعون شيئاً ترتقي به النفوس لنفسها .   



ولقراءة هذه المحادثة الشيقة التي دارت بيين سقراط والصغير أبقراط ، وذهابهم الى بروتاجوراس وحوار سقراط مع بروتاجوراس ومباحثاته معه وكيف كانت السفسطائية الحقيقية التي ظهرت منه إقرأ [ محاورة بروتاجوراس ] لأفلاطون .    


ومما يجب أن يذكر فإن السفسطائيون أيضاً كانوا سبباً رئيسياً في إعدام سقراط لانهم كانوا مشهورين بأنهم كانوا يبيعون المعارف ليكسبوا المال كما أوضحنا ، فعندما إنجذب أكثر الصبيان من طلاب المعرفة الى الحكيم سقراط الذي كان دائماً يبين لهم وللناس مدى جهل السفسطائيين ودجلهم ، حسدوه وبغضوه وكادوا له المكائد ، واتهموه زوراً وبهتاناً بالرذيلة وظلموا عفته وفضيلته ،

ولا ننسى أن تلميذ سقراط ، افلاطون كان من اشد المحاربين لهم ، فقام بفضح إدعاءتهم وتزويرهم للحقائق وكشف غطاء الحكمة البالي من فوق رؤسهم ليفضح جهلهم ، وكذلك أيضاً نهج نهجه تمليذه ارسطو 

 
لذلك قد كانت هذه السلسلة الفلسفية المترابطة مابين تلميذ ومعلم سبباً قوياً لإضعاف حيل السفسطائيين تقريباً في ذلك الوقت ، وتجنبت أن أذكر بعض معتقدتهم الشخصية التي كانت في الغالب شهوانية جسدية ، تتمحور حول كل ماهو محسوس ضاربين بوجود القياسات العقلية عرض الحائط  . 


وعلى كل حال ، فالسفسطائية الآن منتشره بشكل مقزز ، والدليل على ذلك أن الشعب يسمي صاحب اللحية المتقزحة والكمبودي الفاخر عالماً ، وإن جئت لتبحث فيما هو عالم لن تجده إلا خريج فقه وتوحيد من أحد الجامعات الدينية ، والمثير في الموضوع أنه يمتلك شهره خيالية والمثير أكثر أن رصيد هذا العالم المسمى يعج بالملايين المتراقصة على أنغام " يانار شبي "  





بنج

الأربعاء، 18 مايو 2016

أصنام فلسفية

بسم الله الرحمن الرحيم ،


قبل البدء بذكر الاصنام الفلسفية التي صنعها الزيف ، لنبدأ بطرح مسمى الفلسفة ومعناها بشكلٍ سريع ، فنقول بأن الفلسفة هي كلمة مأخوذة من الكلمة اليونانية " فيلوسوفيا " أو فيلاسوفيا سوفيا تعني [ الحكمة ] وفيلا تعني [ ايثار ] لذلك اتت كلمة فلسفة ، وتعني حب الحكمة  او ايثار الحكمة ، والحكمة هي
[ التشبة بالاله حسب الطاقة البشرية ]، ومن هذا المبدأ فأنه يصعب علي شخصياً أن يأخذ أحدهم مسمى فيلسوف وهو ليس للحكمة بأهل ، بينما أغلب فلاسفة الحق مجهولين أو مكفرين ومزندقين .

فمن أخذ شيئاً وهو ليس له بأهل كان صنماً ،  وتاريخنا العربي مليء بالأصنام الفلسفية التي كان يجب أن تُكسر قبل أن تصبح غير قابلة لذلك . 

فأول من نتطرقه ، وهو من زيّف نفسه وإكتسى برداء الحكمة ، وإختبأ في سطور التاريخ في عصر الإنحطاط العربي ،  الذي كان العصر العباسي ، وهو [ ابن خلدون ] الذي حظيت مقدمته على شهرةٍ عالمية ، وإعجاب لا مثيل له ، بل تعدت ذلك حين صُنفت كأحد أهم عشرة أعمال فكرية في تاريخ البشرية ،

فيقول المثل الشعبي [ إن سرقت فإسرق جمل ] ، فإبن خلدون سرق جملاً يعادل ألف جمل ، فكانت جميع فلسفاته وأراءه التي وضعها على الصحف البيضاء وقدمها للعالم مجرد حذلقة تكتيكوية إغتصبها ونسبها لنفسه بكل سكينة وهدوء من الكنز المعرفي العظيم كتاب [ رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء ] ، 
وقد كان ابن خلدون ينكر نظريات إخوان الصفاء دون أن يتطرق لذكرهم ، خصوصاً في نظرية الأفلاك وحركاتها وتأثيراتها ، ثم يأتي لينسخ منها دون أن يتذكر أنه كان منكراً لها ليقع في المحضور رغم حذاقته اللصوصية ، فيقول :

[ إنا نجد في العوالم على إختلافها أثار متنوعة ، ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك والعناصر ، وفي عالم التكوين آثار من حركة النمو والإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام ، فهو روحاني ويتصل بالمكونات لوجود إتصال هذا العالم في وجودها ، ولذلك فهو النفس المدركة والمحركة ، ولابد فوقها من وجود آخر يعطيها قوة الإدراك والحركة ( هنا يقصد نظرية الفيض من العالم العلوي وأن نسبته كنسبة الشمس للعين ، بالرغم أنه كان منكر لها في نصوصه ) ويتصل بها أيضاً ويكون ذاته إدراكاً صرفاً وتعقلاً محضاً وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنفس إستعداد للإنسلاخ من البشرية الى الملكية ليصير بالفعل من جنس الملائكة ]
 
فهذه المقولة أخذها من الرسائل ومن هنا نعلم مدى تناقضه وتلفيقه لفلسفاته بالنسخ من رسائل إخوان الصفا دون أن يعي شيئاً مما كتبه ، حتى سقط في شراك التناقض ، وكان أيضاً يغوص في الفلسفة الالهية ثم يعود لإنكار الغيب وينكر الفلاسفة الإلآهيين كبطليموس وغيره فكان دائماً يورط نفسه . وأترككم للاستزادة أكثر راجعوا كتاب [ نهاية أسطورة نظريات ابن خلدون ]
للدكتور محمود اسماعيل .


أما الصنم الاخر فهو أبو حامد الغزالي الذي سمُي بالفيلسوف عبثاً ، وهو أغث المحاربين للفلسفة ، وفي الحقيقة أن الغزالي تخبط تخبطاً لا مثيل له ، فهو أصلاً لم يبدأ التعلم إلا ليجد قوت يومه ، فكما يقول : 
مات أبي ، وخلف لي ولأخي مقداراً يسيراً ففَنيَّ بحيث تعذر علينا القوت ، فصرنا إلى مدرسة نطلب الفقه ، ليس المراد سوى تحصيل القوت ، فكان تعلمنا لذلك ، لا لله ، فأبى أن يكون إلا لله ]

وقد كان الغزالي يقفز هنا وهناك ، لا يثبت على فكر ولا على منهج ولا على ملة ولا على مذهب ، بل ( يسوقها على عماها )
وها هو حصل على شهرته ليس لذكاءه وعلمه ، بل لأنه أرضى قومه بعد سخطوا عليه ،! كيف لا وهو الذي قال في كتابه
[ سر العالمين وكشف مافي الدارين ]  : في حديث 
" من كنت مولاه فعلي مولاه "
ان عمر قال لعلي ابن ابي طالب عليه السلام
{ بخ بخ ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة }
وهذا تسليم ورضى ، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حباً للرياسة ، وعقد البنود وأمْر الخلافة ونَهيها ، فحملهم على الخلاف ، ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس مايشترون ( يعني الامام علي عليه السلام ) . 

فلهذا كان الغزالي مسخوطاً مذموماً منبوذاً من قومه ، لكنهم الآن جعلوه صنماً فلسفياً عظيماً ، لأنه أرضاهم بعد ان مس مقدساتهم ، بحربه ضد الفكر والفلسفة ، فأخذ يحارب الفلسفة والمذاهب في كتابه [ تهافت الفلاسفة ] وكتابه [ فضائح الباطنية ] 

فكان كما سمعت من أحد الأصدقاء : 
ألا وإن ولد اللاش لا شب شبّه 
لا بد من يوم يعود لمرباه

وقد مات وهو يعاني من مرض الكنظ فعاش بإكتئاب شديد جراء ركضه وحفاوته في إثبات أن الفلاسفة كفار وملحدين وفي النار ، فدخل في شكوك مؤرقة وتناقضات ممرضه ، كما أورد في كتابه ،
[ المنقذ من الضلال ] والجدير بالذكر أنه كان أبو اللذات الجسمانية في الجنة ، ولم تكفه في الدنيا وترضيه ، فأصبح جديراً بأن يقلب بإمام الدواعش الأول ، وللاستزادة راجع كتابه المسمى [ بتهافت الفلاسفة ] الذي كان طرحاً لأراء الفلاسفة فلا يجيد إنكارها لكنه يجيد تكفيرهم بعد أن يتخبط  ، وراجع أيضاً إن أحببت كتاب [ سير أعلام النبلاء ] وكتاب [ في سبيل موسوعة فلسفية الغزالي ]  لمصطفى غالب . 


أما الصنم الآخر فكان المتطبب [ أبو بكر الرازي ] محمد بن زكريا ، الذي حاول جاهداً أن يدخل عالم الفلسفة ، فكان كما قال المثل [ خالف تُعرف ] ، فقام بإنكار الانبياء وكتبهم ليكسب الشهرة المزعومة ، ولنقرأ هذه المناظرة المضحكة التي دارت بينه وبين أبو حاتم الرازي ، لنرى مدى سخفه وقلة عقله ، فلنقرأ بلسان أبو حاتم الرازي ، وللتوضيح أكثر سأرمز لصاحبنا أبو بكر الرازي بحرف ك وأبو حاتم بحرف حـ فالبداية فقط لتتضح الصورة : 

[  ، قال ك / ولكني قد استدركت في هذا شيئاً لطيفاً ، واستخرجت منه ما لم يسبقني إليه أحد غيري ، وأنا أقول : إن الحركات ثلاث طبيعية ، وقسريه ، وفلتيه .
حـ / قلت فهذه الثالثة لم نسمع بها ولا نعرفها فعرّفناها كيف تكون ؟
قال : أنا أضرب لك مثالاً يتصور لك وتعرف وجه الصواب فيه
وجرت هذه المناظرة بيني وبينه في دار بعض الرؤساء وكان ذلك الرئيس قاعداً مع قاضي البلد يتناظران في أمر بينهما
، وهما بحيث نراهم ، وحضر هذا المجلس معنا المعروف بأبي
بكر ختن التمّار المتطبب . فقال الملحد في باب المثل الذي الذي أراد أن يثبت به الحركة الفلتيه التي أبدعها :
قال : هل ترى ذلك القاضي قاعداً مع الأمير ؟
قلت : نعم !
قال : أرأيت لو أنه تناول طعاماً رياحياً ، فتحركت الرياح في جوفه وإشتدت ، وهو يمسكها ويضبط نفسه ، وهو لا يرسلها
حذراً من أن يتأذى الأمير بنتنها ، أو حذراً من أن يكون لها وقع ، فيفتضح ، ثم تغلبته الرياح ففلتت منه ، فليست هذه الحركة طبيعية ولا قسرية ، بل هي فلتيه .
قلت : ألست تزعم أن علة هذه الرياح التي انفلتت من القاضي هي الطعام الذي تناوله ؟
قال : نعم !
قلت : فيجب إذاً ، أن تكون لهذه الحركة الفلتيه التي تزعم
حركة شهوة النفس علة قد تقدمت الحركة التي أحدثتها في النفس ، كما أن الطعام علة لهذه الرياح ، واذا كان هنالك علة قد تقدمت ، فلا بد أن تكون قديمة مع النفس ، أو أحدثها مُحدث ، فإن كانت قديمة معها فهي طبيعية ، ويجب أن تكون النفس أبدا متحركة بهذه الحركة ، لأن الطبع لا يفتر عن عمله
ويجب أيضاً أن تعدها مع الخمسة التي تزعم أنها قديمة 
، وإن كانت الحركة محدثة ، فهي قسرية ، فمن ذا الذي أحدثها وقسر النفس عليها ؟!

فلما إنتهى الكلام الى ها هنا ، ضحك ختن التمّار شامتاً به وكان يحضر هذه المناظرات فيظهر الشماته به إذا انكسر لما كان بينهما من الخلاف في قدم العالم وحدثه ، فلما ضحك متعجباً لما أورده ، خجل الملحد من ضحكه وأقبل عليه وقال :
وأي مقداري للدهري حتى يستهزئ ويضحك ويسيء أدبه ؟ دع عنك الضحك ، وتكلم عن مذهبك من القول بالدهر وقدم العالم لأعرفك مقدارك ، قال له ختن التمّار : الآن بعد أن افتضحت وانكسرت ولم يقنعك حتى ضرّطت القاضي وفضحته عند الأمير وأوردت هذا السخف وهذه الحجة الباردة ، أقبلت علي وتستريح الى مخاصمتي ! ، دعني ومذهبي وأجب الرجل ، فليس هذا مما يعنيك ويخلصك من هذه الفضائح والدعاوى الباطلة التي تُمخرق بها على الناس وبقيا ساعة في نحو هذا التشاتم انقطع الكلام ] 

طبعاً لنكون في الصورة فقد كان ابو بكر الرازي يؤمن
بالخمسة القديمة التي هي ( الباري والنفس والهيولى والمكان والزمان ) وهذا باطل ويطول الشرح في إثبات بطلانه ، فلذلك لنكمل حتى لا نخرج عن السياق ، 

وللاستزادة إقرأ كتاب [ أعلام النبوة ] لأبو حاتم الرازي ، وقد ألف أبو بكر الرازي عدة كتب ، كان من بينها كتاب [ مخاريق الأنبياء ] ومحتواه يتضح من عنوانه ، وله أيضاً كتاب [ الطب الروحاني ] الذي لم يكن طباً أصلاً ، وقد أُلفت عدة كتب فلسفية تبين تخبطه وإدعاءه بأنه طب . 

أما الصنم الأخير فهو أكثرهم غموضاً وبت لا أعلم كيف وصل لهذه الشهرة الجبارة ، رغم أنه قد يعد معدوم التأليف وإن كان له كتاب أعرفه فهو [ المنطق لإبن المقفع ] ، وحين تقرأه لن تجد إلا الحكيم ارسطوطاليس يتحدث بين السطور ! 

وله أيضاً كتاب [ الأدب الكبير ، والأدب الصغير ] ، وعندما تتصفحها ستجد الحكماء القدماء يتحدثون بدرر الكلم والأدب ، أي ان ابن المقفع كان يقتبس فقط ، ولربما كانت شهرته من شهرة كتاب كليلة ودمنة ، حيث أنه من نقله من الفارسية إلى العربية فنُسب إليه ، لكن دعونا نكسر هذا الصنم ولنتكلم عن كتاب [ كليلة ودمنة ] ، حتى نرى هل فعلاً كان ابن المقفع هو من ترجمة ونقله ونظمه !؟ ، 

كتاب كليلة صُنف في زمان عيسى عليه السلام لبعض أهل العلم المسمى [ بيدبا ] في جزيرة الهند ، والسبب وراء تأليفه هو أن الملك دبلشيم كان صبياً طاغياً ، فظلم وجار وجاء الحكيم لينصحه فزج به في السجن ، وبعد مدة شاء الله بهذا الملك خيراً فإطّلع على خزائن أبائه فشاهد كُتباً صُنفت في وقتهم وذَكرت سيرتهم فتمنى في قلبه أن يكون له مثل ذلك ، فجاء بالحكيم بيدبا وإعتذر له من حسن نيته وأخذ يستمع إليه ويلتقط جواهر حكمته فأُلف هذا الكتاب ، ونقل كتاب كليلة ودمنة بعد عناء وجهد شاق وحيل عظيمة من الهندية الى الفارسية ، برزوية ، وهذا التعب يدل على أن الكتاب كنز عظيم لا يقدر بثمن ، لكن الذي يهمنا الآن ، هو كيف نُقل الكتاب من الفارسية الى العربية ومن ترجمه .؟!

فجاء أن كتاب كليلة ودمنة نقله من الفارسية إلى العربية [ عبدالبديع بن علي الأهوازي ]
لـــ [ يحيى بن خالد بن برمك ] في خلافة المهدي ، ثم نظمه أولا [ ابان اللاحقي ] برسم من ملكه المسمى بيحيى ، ثم إنه وقف على هذا الكتاب الحكيم العربي العباسي المسمى
 [ بأبي علي محمد بن محمد بن صالح الهبارية ]

فنظر لما فيه من العجائب فرأى في نظم ابان اللاحقي خلل ، فنظمه ثانياً ، وأجاد في النظم ، وقد كان نظمه لهذا الكتاب على ماذكر عشر ليالٍ وسماه
[ نتائج الفطنة في كتاب كليلة ودمنة ] وقد قال فيه شعراً  :

قال الحكيم العربي العباسي
إني تأملت كلام الناس

فلم اجد لعرب ولا عجم
مثل الذي للهند من غر الحكم

فحسبهم وضعهم كليلة
فضيلة ما مثلها فضيلة

اخترعوا فيها النهى والحكمة
بهمة في الفضل اي همة 

وما لا يعلمه الأغلبية بأن ابن المقفع هو من نقل وترجم
[ كتاب مزدك ] ، ويُشار أن ذلك سبباً في قتله ، وكما ورد في كتاب أعلام النبوة فإن ابن المقفع بالفعل ملحد وقد كانوا أقرب إليه تاريخياً منا ،  

فلهذا كانت نسبة ترجمة كتاب كليلة ودمنة للإبن المقفع تعد هي الآخرى قضية غامضة كقضية مقتله أو لنقل إنتحاره ، وليكن موت ابن المقفع هو خاتمة لهذه المقالة ولنتجنب الإطالة فسنذكر قضية الإنتحار فقط لإن الغالبية لا يعلمون إلا أنه قتل ومثل به ، ففي كتاب [ ابن المقفع أديب العقل ] للدكتور فكتور الكك ، يقول :
[ وقد وقفت على مصدر عربي في مكتبة للمخطوطات بطهران قرأت فيه قولاً لمؤلفه يتعلق بموت ابن المقفع وهو قول بالغ الأهمية جديراً بالتأمل ، مفاده أن سفيان بن معاوية لما ظفر بإبن المقفع واراد حمله الى المنصور قتل نفسه ، وقال بعضهم انه شرب سماً ، وقال البعض أنه خنق نفسه ، ] 
 

وفي النهاية هنالك الكثير والكثير من الأصنام الفلسفية التي صنعها الاغبياء ، وغلفها التاريخ بهندام الحكمة والفلسفة وكان كل هذا بسبب أهواء مذهبية أو سياسية أو مادية ، كما هو حالنا الآن ، فقد نجد شخصاً موهوباً لكنه مهمش لإن علاقاته الإجتماعية ضعيفة ، وبالمقابل نجد شخصاً فارغاً وقد يكون حقيراً أصلاً ، لكنه ذو علاقات قوية وكثيرة ، فيجد من يلمع له ويصنع له مجداً كاذباً ، وتاريخاً مزيفاً ، فنصيحة لا تعطوا أحداً فوق قدره لمصالح شخصية ، أو عواطف شاعرية أو نظرات سطحية أو غيبية ، فأنتم لا تزيّفون الشخص فقط بل تزيّفون التاريخ ، وأشياء أخرى !



بنج ..

الثلاثاء، 3 مايو 2016

المحسوس والمعقول


ماذا تعلمت من كهف افلاطون ! 
إن لم تشاهد الڤيديو فشاهده قبل أن تقرأ . 

بسم الله الرحمن الرحيم ، في هذه المقالة سنتكلم عن المحسوس والمعقول والمثل والممثول ، بشرح مبسط لكهف أفلاطون ، ثم سنضرب بعض الأمثلة عليها ، وملاحظة بسيطة قد تكون أخلاقية قبل أن تكون منطقية ، لا تضحك على يهودي يهز رأسه أمام هيكل سليمان ولا تستهزئ بمسيحي يغرق ابنه ليعمده ، ولا تستخف بالبوذي عندما تراه يصوم اغلب ايامه ، فلكل دليل اجابة ، وكل عمل يدل على معرفة ، فلذلك لنبدأ بهذا السؤال - ماذا تعرف عن المحسوس والمعقول وعن المثل والممثول !؟ كما شاهدنا في كهف افلاطون الظل هو المثل واصحاب الظل الذين خارج الكهف هم الممثول ، فالمثل الذي هو الظل محسوس ، لان عيونهم تراه لذلك نقول بأن المحسوس " هو كل ماتدركه الحواس " أما الممثول الذي هو صاحب الظل فهو المعقول لذلك نقول بأن المعقول " هو كل مايدركه العقل والمنطق بعد أن أدركت الحواس المحسوس " أي أنك فكرت وقلت هذا الظل ليس إلا صورة تراها عيناي وهي لشيء لا تقدر حواسي الوصول إليه ولكن عقلي قد وصل للإستنتاج بأن هنالك من يحركه ويملكه  .

فماذا لو إفترضنا أن الكهف هو هذه الأرض أي عالم الكون والفساد ، الذي يتكون من الصور والمواد ، ونحن هؤلاء المقيدين بالسلاسل والأغلال ولا نرى إلا ظلالاً فنظن بأن هذه الظلال هي كل شيء في الوجود ، ثم أتى شخصٌ ما وفك القيد وأخرج أحدنا ليرى أصحاب هذه الظلال وهذا العالم الفسيح ، وأخبرنا أن الظلال  مجرد مثل لنعرف ممثوله ، الذي هو في خارج الكهف ، ثم عاد لنا ليخبرنا بما شاهده من عالمٍ فسيح ، هل سنصدقه !؟ مالم نتخلص من السلاسل والاغلال ونرى بعقولنا !؟ طبعاً لا ، وحتى لو صدقناه دون أن نستطع التخلص من السلاسل والأغلال التي كانت رمزاً للشهوة والشهرة والمناصب والملذات الدنيوية لكان ذلك في غاية الصعوبة لشدة تعلقنا بها.
 
ثم لو إفترضنا أن ماهو خارج الكهف الذي أخبرنا به هو الملكوت الأعلى الذي لا سبيل لمعرفة ماهيته إلا بالعقل دون الحواس ، لأنه عالم روحاني خالي من الهيولى والحواس ، حيث أنها لا تبلغ إلا ماكان قريباً منها ، ولنفهم معنى الهيولى فالهيولى هي كل مادة + صورة ، والمادة غنية عن التعريف أما الصورة فنعني بها النقش ومثال بسيط على ذلك
[ السكين مادتها الحديد ، وصورتها ' نقشها ' أنها سكين ] 

وزبدة المحصول من كهف أفلاطون أننا لا نستطيع إدراك كُنه مالا تصل إليه حواسنا ، إلا بتصور العقل ولن يتصوره العقل إلا بمَثل تصل إليه [ الظل ] فيدل على مَمثوله [ الحقيقة ] . 

فاتمنى أن تكون الفكرة قد وصلت ! 

وبعد أن فرغنا من هذا الشرح لنأتي لذكر بعض الأمثلة البسيطة على المثل والممثول فأقرب شيء لنا هي [ النفس ]
تلك الجوهرة الروحانية اللطيفة ، فنحن لا نعرف ماهيتها لكننا عرفنا وجزمنا أن هذا الجسم الثقيل آلةٌ لها حيث أنها إذا فارقته ، ثلُجَ وسكن وانعطب واصبح ميتاً فيفسد ويبلى ويعود لأصله التراب [ الكهف ] ، فلذلك كان الجسم الذي هو محسوس [ مثل ] ، والنفس التي داخله التي هي معقول [ ممثول  ] فبعد أن يفنى الجسد تعود لعالمها عالم الروح ، إن كانت خاليةً من الذنوب والأدران طبعاً . 


وبما أننا في شهور عظيمة ومباركة ، أحب أن أتطرق لذكرها ، فهل يعقل أن الله سبحانه وتعالى فضّل الشهور الثلاثة التي هي رجب الأصب ، وشهر شعبان الكريم ، وشهر رمضان المعظم من بين باقي الشهور عبثاً ومحض صدفة  ؟!
حشاه سبحانه وتعالى ..

فلنعلم بأن هذه الشهور لطالما كانت سعودة وغيرها قد يخالطها النحس ولطالما كان القدماء يقدسونها على باقي الشهور ويغتنمونها في طلب الرزق والتضرع لله تعالى بأنواع العبادات ، لأنهم يعلمون أنها سعودة بغض النظر عما ينطوي تحتها من معانٍ عظيمة ، فيقول أحد القدماء من الفلاسفة الصالحين :

[ عظموا المثل لشرف الممثول ، وقوموا بلوازم المحسوس تعظيماً للمعقول ] 


ولنبين أن الفلاسفة القدماء كانوا يعترفون بفضل أيامٍ عن أيام فقد كان لهم أيضاً ثلاثة أعياد ، فكان العيد الأول يوم نزول الشمس برج الحمل ويسمى " نوء الربيع " ويوافق في الإسلام عيد الفطر المبارك ، أما الثاني فيكون إذا نزلت الشمس أول السرطان ويسمى " نوء الصيف " ويوافق في الإسلام عيد الأضحى المبارك ، حيث تكون الفرحة فيه أقل
، أما العيد الثالث فيكون إذا نزلت الشمس الى الميزان ويوافق في الإسلام عيد غدير خم ، فلهذا كانت السنن والشرائع النبوية معلومة ولم تأتي صدفاً فسنن الله لا تبديل فيها ، ولنعلم بأن لكل شيء أيامٌ كانت أو أشهر أو عبادات أو زيارات أو تعب أو نصب سبب ، ولكل مثل ممثول ، ولكل محسوس معقول ، فلا يعقل أن تكون الشرائع الالهية مجرد
أفعال لا معنى لها ولا روح ، فعبثاً يكون وقد قال تعالى :

{ ان الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه [ الحق ] من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا [ أراد ] الله بهذا مثلا [ يضل ] به كثيراً و[ يهدي ] به كثيراً وما يضل الا الفاسقين } ..

وقال تعالى : 

{ ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } 

الحكمة / لا تقال إلا لمستحقيها 
والجدال بالحكمة لا يكون إلا بين أهل معرفة 
فلو أن النبي صلوات الله عليه واله لم يكن يجادل بالحكمة والحجج والبراهين العقلية الدامغة لما اتبع الحكماء والمفكرين من سادات العرب سبيل الرب ..


وفي الختام نقول :
بأن شهر رجب الأصب قد شارف على الرحيل وها هو شهر شعبان الكريم سيشرفنا بعد حين ، وقد قال رسول الله صلوات الله عليه واله : 

[ رمضان شهر الله وشعبان شهري ، ورجب شهرك ياعلي ] 

فعظموا هذه الشهور الثلاث التي فضل الله وخذوا بما قال القدماء . وإغتنموها في عمل الخير والتضرع والدعاء ، وطلب التوبة والمغفرة ودفع البلاء ، وبذل الزكاة والصدقات والعطاء ،  فرزقنا الله وإياكم بركتها مثلاً وممثولاً ومحسوساً ومعقولاً ، وصلى الله وسلم على نبيه محمد المختار ، وعلى وصيه حيدر الكرار ، وعلى الزهراء مشكاة الأنوار ، وعلى الحسن والحسين مستودع النور ومستقر الاسرار ، وعلى الأئمة من ذريتهم الهداة الأبرار . 



بنج