الاثنين، 30 مايو 2016

السفسطائية

عندما تتوه في مدينة ما ، فإنك غالباً لن تسأل أحد الغرباء أمثالك ، بل حتماً ستحاول أن تجد أحد سكان هذه المدينة لتسأله ، فكما قال المثل : أهل مكة ادرى بشعابها ، لذلك في أي بحث حاول دائماً أن تجد شخصاً ضليعاً في الإختصاص الذي نال اهتمامك أو فيما أنت فيه باحث ، وطبق هذه القاعدة في جميع بحوثك ، إن كان مرادك بحثاً حقيقياً يرضي منالك .


وبما أن السفسطائية تتعلق بالفلسفة ، وأيضاً أصلها يوناني ، فيجب علينا أن نجد شخصاً ضليعاً في الفلسفة وفوق هذا يجب أن يكون ضيلعاً في اللغة اليونانية ، لذلك هل نختلف في أننا لن نجد كالفارابي مرجعاً قوياً لنا ؟!

فالفارابي هو الذي لقب بالمعلم الثاني نسبةً للمعلم الأول ارسطاطاليس ، والذي كان من أوائل الفلاسفة ترجمةً للكتب اليونانية وشرحاً للفلسفة الإغريقية الحقة ، والذي قال ابن سينا فيما عنى أنه قرأ كتاب مابعد الطبيعة مايقارب الأربعين مرة حتى حفظه لكنه لم يهتدي لفهمه إلا بعد أن قرأ كتاب الفارابي في أغراض مابعد الطبيعة "

فقد جاء في كتاب إحصاء العلوم للفارابي ذكر انواع مايجب أن يُستعمل القياس في المخاطبة في الجملة وأنها خمسة ، وهي برهانية ، وجدلية ، وسوفسطائية ، وخطبية ، وشعرية .

فيقول في السوفسطائية

" والاقاويل التي شأنها أن تغلط وتضلل وتلبس وتوهم فيما ليس بحق أنه حق وفيما هو حق أنه ليس بحق وتوهم في من ليس بعالم أنه عالم ناقد ، وتوهم في من هو حكيم عالم أنه ليس كذلك ، وهذا الاسم ، اعني السوفسطائية اسم المهنة التي يقدر الانسان المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والايهام إما في نفسه أنه ذو حكم وعلم وفضل ، أو في غيره أنه نقص من غير ان يكون كذلك في الحقيقة ، وإما في رأي حق أنه ليس بحق وفيما ليس بحق انه حق وهو مركب في اليونانية من [ سوفيا ] وهي الحكمة ومن [  اسطس ] وهي المموهه ، فمعناه [ حكمة مموهه ] وكل من له قدره على التمويه والمغالطة بالقول في شيء كان سُمي بهذا الاسم ، وقيل انه سوفسطائي ، وليس كما ظن قوم ان سوفسطا اسم انسان في الزمن القديم ، وان مذهبه كان ابطال الادراك والعلوم ، وشيعته الذين يتبعون رأيه فينصرون مذهبه يسمون سوفسطائيين ، وكل من رأى رأي ذلك الرجل ونصره سمي بهذا الاسم فإن هذا الظن غبي جداً فإنه لم يكن فيما سلف إنسان كان مذهبه إبطال العلوم والإدراك يلقب بهذا اللقب ولا القدماء سمو بهذا الاسم أحداً ، لأجل انهم نسبوه الى انسان كان يلقب سوفسطا ، بل انما كانوا يسموه انساناً بهذا الاسم لأجل مهنته ونوع مخاطبة وقدرته على جودة المغالطة والتمويه ، كائناً من كان من الناس ، كما لا يسمون الانسان جدلياً لأنه ينسب الى انسان كان يلقب بجدل بل سموه جدلياً لمهنته ونوع مخاطبته ، ولقدرته على حسن استعمال صناعته ، كائناً من كان من الناس . فمن كانت له هذه القوة والصناعة فهو سفسطائي ومهنته هي سوفسطائية وفعله الكائن عن مهنته سوفسطائي . 
 
 
لا أظن أن ماورد يحتاج لشرح أو توضيح أكثر ، فقد كان شرح الفارابي كافياً ووافياً ، فبيّن معنى الاسم ومما تركب وعلى من يطلق ولماذا يطلق ومتى يطلق .   


ثم إننا سنجد أن ابو نصر الفارابي قد قسم علم المنطق الى ثمانية أجزاء ، وكل جزء منها في كتاب ، فكانت كالتالي :
1 - قاطيغورياس بالعربية [ المعقولات ]
2 - باري امينياس بالعربية [ العبارة ]
3 - انطولوقيا الاولى [ القياس ]
4 - انطولوقيا الثانية [ البرهان ]
5 - طوبيقا [ المواضع الجدلية ]
6 -
[ والسادس فيه أولا الاشياء التي شأنها ان تغلط عن الحق وتلبس وتحير ، واحصاء جميع الامور التي يستعلمها المشنع والمموه وكيف تفسخ ، وبأي الاشياء تدفع وكيف يتحرز الإنسان من أن يغلط في مطلوباته أو يغالط ، وهذا الكتاب يسمى باليونانية [ سوفسطيقا ] ومعناه الحكمة المموهه 
7 - ريطوريقا [ الخطابة ]
8 - فيوطيقا [ الشعر ] .

فنلاحظ هنا أن الكتاب السادس كما شرح عنه الفارابي انه كتاب يختص لما قد يستخدمه السفسطائيين لتمويه الحكمة والحق وكيف يجب على الانسان تجنب الوقوع في مغالطاتهم ، وكيف يتجنب أن يكون سفسطائياً مغالطاً ، ولهذا نفهم هنا أن السفسطائي هو شخص لا يمت للفلسفة أو الحكمة والحق بصلة ، وإنما يريد أن يلبس الباطل رداء الحكمة ليوهم الناس بأنه حق ، ولهذا أُضيف هذا الكتاب الى علم المنطق ، ليتعلم المبتدئين كيف يموه السفسطائي ويضلل ، وكيف يستطيع الخصم مواجهته وإبطال سحره وفسخه . 

ومما يؤكد على ماقد ذكر فإننا سنجد أن ابن سينا قد لخص اقسام المنطق في خمسة أبيات شعرية فائقة الجمال ، وأتى لذكر التمويه والمغالطة التي هي السفسطة فيقول : 

الذايعات واللواتي تقبل ** فإنما موضوعهن الجدل
والذايعات بادي السماع ** فللخطابات وللإقناع
وذلك الوهمي والمشبه ** مغالطي علمه مموه
وذلك الموقع للتّخييل ** يصلح في الشعر سوى الدليل
فهذه ماقيل في التصديق ** والحمد لله على التوفيق


وإن أتينا لذكر بعض المواضع الصحيحة التي توضع كلمة سفسطائي أو سفسطة فيها ، فلن نجد أجمل من أبيات الفيلسوف والشاعر عامر بن عامر البصري مثالاً لهذا ، فقد قال :   

تفوق تيهاً بالمجالس معجباً
بوضع إصطلاحاتٍ له منطقيةِ

وآخر منهم في الُأصوليين ناظرٌ
يناظر عن وهمٍ بلجٍّ وجرأةِ

ومنهم بتقرير الخلاف مسفسط
يغالطُ في ألفاظه الجدليةِ



وبعد أن رأينا أين توضع كلمة السفسطة عند الفلاسفة الحق ، يجب أن علينا نذكر أن السوفسطائيين قد اشتهروا بمهارتهم في الخطابة والبلاغة ، فكانوا يجعلون السائل يتوه بطول الخطابة وانسجالها وبقوه البلاغة وجمالها ، لدرجة أن السائل قد ينسى عمّا سأل أصلاً ، ثم في النهاية عندما يجتمع ذهن السائل الذي أضاعه هذا السفسطائي بطول الاجابة وسحر الكلام ، فإنه يجد أنه ليس هنالك إجابه معينه أصلاً ، وإنما كان غرض السفسطائي أن يتهرب من الإجابة بطول خطابته وبلاغتها حيث يصبح السائل في دوامه ضخمة لا مثيل لها ، وهنا سيظفر السفسطائي بتشتيت الخصم وبتصفيق الجماهير وإنبهارهم ، كما حدث مع سقراط والسفسطائي بروتاجوراس .


وعلى ذكر بروتاجوراس الذي كان ممن اشتهر على انه سفسطائي وتمدح بذلك ، سيكون من الضروري أن يدعّم ما شرعنا في بيانه ، لذلك إخترت مقطع صغير من محاورة دارت بين الحكيم سقراط والصغير أبقراط إقتبستها من كتاب أفلاطون [ محاورة بروتاجوراس ] وسنتعلم منها إن شاء الله شيئين : فالشيء الأول والذي أراه مهماً جداً ، فهو كيف يجب على الإنسان أن ينتقي [ غذاء النفس ] لا سيما صغار السن ، أما الشيء الثاني ، فهو جزء من موضوعنا حول السوفسطائيين .

فعندما حضر أشهر السوفسطائيين الذي هو بروتاجوراس الى مدينة سقراط إنجذب إليه من شهرته وسمعته العديد من التلاميذ ، وقد كان الصغير ابقراط ابن أبوللودوروس من أشد المعجبين به ، فأتى في الصباح الباكر ليوقظ سقراط ويبشره بقدوم بروتاجوراس الى مدينتهم ، وكان مراده أن يطلب من سقراط أن يذهب معه لبروتاجوراس ليكون سقراط وسيطاً ليقبله كتلميذ عنده ، وقد كان ابقراط من عائلة غنية ، وكان مستعداً ليدفع من الأموال الكثير ليقبله بروتاجوراس تلميذاً عنده . 

وطبعاً كان بروتاجوراس يتاجر بمهنته التي هي السوفسطائية ، وسنتعلم أكثر عن السوفسطائية من النصوص الآتيه ، 


النص ***
ولكن يا أبقراط أليس السفسطائي في الحق بائعاً بالجملة أو بالقطعة لبضائع عليها تتغذى النفس ؟
أنا فيما يخصني أتصور أنه واحد كهذا ،
" وعلام تتغذى النفس ياسقراط ؟ "
فأجبت : على المعارف من غير شك ، ولا يجب ياعزيزي ، أن يخدعنا السفسطائي وهو يمدح مايبيع ، كما يفعل من يبيعون غذاء الجسد أي تجار الجملة أو تجار التجزئة ، فهؤلاء لا شك لا يعرفون إن كانت البضائع التي يتجولون بها مفيدة للجسد أم مضرة به ، ولكنهم مع ذلك يمتدحون كل مايبيعون ، كذلك فإن هؤلاء الذين يشترون منهم يجهلونه ، اللهم إلاّ إذا حدث بالصدفة وكان الواحد منهم متخصصاً في التربية البدنية أو كان طبيباً ، وهكذا الأمر أيضاً مع هؤلاء الذين يتجولون بالمعارف من مدينة الى اخرى ويبيعونها ويتسوقون بقطعها ويمتدحون لمن يرغب كل مايبيعون ، ولكن ربما يكون من بينهم يا أفضل الناس ، من يجهل ان كان مايبيع مفيداً للنفس أم ضاراً بها ، وكذلك الأمر أيضاً مع من يشترون منهم ، اللهم إلا اذا حدث بالصدفه وكان من بينهم طبيب في أمور النفس . والآن فاذا حدث وكنت عالماً بما هو طيب وخبيث في هذه الأشياء فإنك تستطيع بلا تردد أن تشتري تلك المعارف سواء عند بروتاجوراس أو من عند غيره أيا كان . أما اذا لم يكن هذا هو حالك ، فانتبه أيها العزيز الى انك تخاطر بأعز مالديك في لعب بالنرد . وذلك أن المخاطرة أعظم بكثير في شراء المعارف عنها فيما يخص الأطعمة ، فالأطعمة والمشارب التي تشتريها عند تاجر التجزئة وتاجر الجملة يمكن أن تحملها في أوعية اخرى ( غير الجسد ) ، وقبل أن ندخلها الجسد بشربها أو أكلها فإنه يمكن أن نضعها في المنزل أو نستشير الخبير الذي ندعوه لمعرفة اذا ماكان يمكن أن نأكلها أو أن نشربها أم لا وبأي مقدار وفي أي وقت . وهكذا فإن الخطر ليس كبيراً بشرائنا لها ، أما المعارف فإنه ليس ممكناً أن نحملها في وعاء مختلف غير النفس ، بل نحن نحمل المعرفة بالضرورة ، فور أن ندفع الثمن في النفس ذاتها بمعرفتنا سواء أكان في ذلك ضرر لنا أم نفع ، اذن فلنتدبر هذه الأمور ومع منهم أكبر منا سناً ، لأننا لا نزال صغار حتى نقرر في مثل هذا الأمر .


وبعد أن أخذنا هذه الحكمة العظيمة من سقراط حول إنتقاء وإختيار المعارف ، والشيء القليل عن السفسطائيين بلسانه ، سأرجع لبداية المحادثة بينه وبين أبقراط لأقتطف عدة أسئلة وجهها سقراط لأبقراط لنبين أكثر عما هو السفسطائي ،

النص ***
وأنت نفسك ماذا تريد أن تصير بذهابك للقاء بروتاجاروس ؟
وهنا أجاب أبقراط ووجهه يحمر لأن النهار بدأ يظهر وأصبح ممكناً أن أراه
" إذا كان هذا متشابهاً مع ماسبق ، فإنه من الواضح أن ذلك لأصير سفسطائياً " 
فقلت له : وأنت لا تخجل وحق الآلهه من أن تظهر أمام اليونان بصفتك سفسطائياً !؟


وهنا أحب أن أبين أن سقراط قد سأله لو ذهبت لتكون تلميذاً عند طبيب ماذا ستكون ؟ فيرد لاكون طبيباً ، ولو ذهبت لمعماري فماذا ستكون فيرد لأكون معمارياً ، فلو ذهبت لسفسطائي ماذا ستكون ؟
فقال سفسطائي ، وهنا نفهم أن أكثر السفسطائيين ومنهم بروتاجاورس لم يكن لهم إختصاص معين ، بل كانوا يبعيون كل شيء ولا أحد يعلم ما هذا الشيء ، لأن غرضهم المال في الأساس ، ولكن كان بعضهم يعلم الشعر والخطابة والجدال وكيف تموه وتغالط الخصم أي أنهم غالباً لا يبيعون شيئاً ترتقي به النفوس لنفسها .   



ولقراءة هذه المحادثة الشيقة التي دارت بيين سقراط والصغير أبقراط ، وذهابهم الى بروتاجوراس وحوار سقراط مع بروتاجوراس ومباحثاته معه وكيف كانت السفسطائية الحقيقية التي ظهرت منه إقرأ [ محاورة بروتاجوراس ] لأفلاطون .    


ومما يجب أن يذكر فإن السفسطائيون أيضاً كانوا سبباً رئيسياً في إعدام سقراط لانهم كانوا مشهورين بأنهم كانوا يبيعون المعارف ليكسبوا المال كما أوضحنا ، فعندما إنجذب أكثر الصبيان من طلاب المعرفة الى الحكيم سقراط الذي كان دائماً يبين لهم وللناس مدى جهل السفسطائيين ودجلهم ، حسدوه وبغضوه وكادوا له المكائد ، واتهموه زوراً وبهتاناً بالرذيلة وظلموا عفته وفضيلته ،

ولا ننسى أن تلميذ سقراط ، افلاطون كان من اشد المحاربين لهم ، فقام بفضح إدعاءتهم وتزويرهم للحقائق وكشف غطاء الحكمة البالي من فوق رؤسهم ليفضح جهلهم ، وكذلك أيضاً نهج نهجه تمليذه ارسطو 

 
لذلك قد كانت هذه السلسلة الفلسفية المترابطة مابين تلميذ ومعلم سبباً قوياً لإضعاف حيل السفسطائيين تقريباً في ذلك الوقت ، وتجنبت أن أذكر بعض معتقدتهم الشخصية التي كانت في الغالب شهوانية جسدية ، تتمحور حول كل ماهو محسوس ضاربين بوجود القياسات العقلية عرض الحائط  . 


وعلى كل حال ، فالسفسطائية الآن منتشره بشكل مقزز ، والدليل على ذلك أن الشعب يسمي صاحب اللحية المتقزحة والكمبودي الفاخر عالماً ، وإن جئت لتبحث فيما هو عالم لن تجده إلا خريج فقه وتوحيد من أحد الجامعات الدينية ، والمثير في الموضوع أنه يمتلك شهره خيالية والمثير أكثر أن رصيد هذا العالم المسمى يعج بالملايين المتراقصة على أنغام " يانار شبي "  





بنج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق