الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

قول إبن سينا في حي بن يقضان

ماغاب عن الكثيرين حتى يومنا الحاضر ، من قصة حي بن يقضان ، تلك القصة التي تعادل ألف كتاب ، التي لاقت إنتشاراً واسعاً وشعبية كبيرة ، فكان خلاصتها في جزء بسيط كان خارج اطار الكتاب نفسه فيقول إبن سينا قدس الله روحه :

بسم الله الرحمن الرحيم

وماتوفيقي الا بالله واليه انيب وبعد فإن اصراركم معشر اخواني على اقتصاء شرح قصة حي بن يقضان هزم لجاجي في الامتناع ، وحل عقد عزمي على المماطلة والدفاع فإنقدت لمساعدتكم وبالله التوفيق إنه قد تيسرت لي حين مقامي ببلادي ” برزة “برفقائي إلى بعض المتنزهات المكتنفة لتلك البقعة فبينا نحن نتطاول إذ عنّ لنا شيخ بهي قد أوغل في السن ، وأخنت عليه السنون ، وهو في طراة العز لم يهن منه عظم ، ولا تضعضع له ركن ، وما عليه من المشيب إلا رواء من يشيب ، فنزعت إلى مخاطبته ، وانبعثت من ذات نفسي لمداخلته ومجاراته ، فملت برفقائي إليه فلما دنونا منه ، بدأنا هو بالتحية والسلام ، وافتر عن لهجة مقبولة ، وتنازعنا الحديث حتى أفضى بنا إلى مسائلته عن كنه أحواله ، واستعلامه سنه ، وصناعته ، بل إسمه ، ونسبه ، وبلده ، فقال : أما أسمي ونسبي فحي بن يقضان ، وأما بلدي فمدينة بيت المقدس ، وأما حرفتي فالسياحة في أقطار العوالم ، حتى أحطت بها خبرا ، ووجهي إلى أبى وهو حي ، وقد عطوت منه مفاتيح العلوم كلها ، فهداني الطريق السالكة إلى نواحي العالم ، حتى زويت بسياحتي آفاق الأقاليم ، فما زلنا نطارحه المسائل في العلوم ، ونستفهمه غوامضها ، حتى تخلصنا إلى علم الفراسة ، فرأيت من إصابته فيه ما قضيت له آخر العجب ، وذلك أنه ابتداء لما انتهينا إلى خبرها فقال : ” إن علم الفراسة لمن العلوم التي تنقد عائدتها نقداً فيعلن ما يسره كل من سجيته فيكون تبسطك إليه وتقلصك عنه بحسبه ، وأن الفراسة لتدل منك على عفو من الخلائق ومنتقش من الطين ، وموات من الطبائع وإذا مستك يد الإصلاح أتقنتك ، وإن خرطك العار في سلك الذلة انخرطت وحولك هؤلاء الذين لا يبرحون عنك إنهم لرفقة سوء ، ولن تكاد تسلم عنهم وسيفتنونك أو تكتنفك عصمة وافرة ، واما هذا الذي أمامك فباهت مهذار يلفق الباطل تلفيقاً ، ويختلق الزور اختلاقاً ، ويأتيك بأنباء ما لم تزوده قد درن حقها بالباطل ، وضرب صدقها بالكذب على أنه هو عينك و طليعك ، ومن سبيله أن يأتيك بخبر ما غرب جنابك وعزب من مقامك ، وأنك لمبتلى بانتقاد حق ذلك من باطله ، والتقاط صدقه من زوره ، واستخلاص صوابه من غواشي خطئه ، إذ لا بد لك منه فربما أخذ التوفيق بيدك ، ورفعك عن محيط الضلالة ، وربما أوقفك التحير ، وربما غرك شاهد الزور ، وهذا الذي عن يمينك أهوج ، إذا انزعج هائجه لم يقمعه النصح ، ولم يطأطئه الرفق ، كأنه نار في حطب ، أو سيل في صبب ، أو قرم مغتلم ، أو سبع ثائر ، وهذا الذي عن يسارك فقذر شره ، قرم شيق لا يملأ بطنه إلا التراب ، ولا يسد غرثه إلا الرغام ، لعقة ، لحسة ، طعمة ، حرصة ، كأنه خنزير أجيع ، ثم أرسل في الجلة ولقد ألصقت يا مسكين بهؤلاء إلصاقاً لا يبريك عنهم إلا غربة تأخذك إلى بلاد لم يطأها أمثالهم ، وإذ لات حين تلك الغربة ولا محيص لك عنهم فلتطلهم يدك ، وليغلبهم سلطانك ، وإياك أن تقبضهم زمامك ، أو تسهل لهم قيادك ، بل استظهر عليهم بحسن الإيالة ، وسمهم سوم الاعتدال ، فإنك إن متنت لهم سخرتهم ولم يسخروك ، وركبتهم ولم يركبوك ، ومن توافق حيلك فيهم أن تتسلط بهذا الشكس الزعر على هذا الأرعن النهم ، تزبره زبراً ، فتكسره كسراً ، وأن تستدرج غلواء هذا التائه العسر بخلاية هذا الأرعن الملق فتخفضه خفضاً ، وأما هذا المموه المتحرص ، فلا تحتج إليه و يأتيك موثقاً من الله ، غليظاً ، فهنا لك صدقه تصديقاً ، ولا تحجم عن إصاخة إليه لما ينهيه إليك وإن خلط فإنك لن تعدم من أنبائه ما هو جدير باستثباته وتحققه به . فلما وصف لي هؤلاء الرقة وجدت قبولى مبادراً الى تصديق ما قرفهم به ، فلما استأنفت في امتحانهم طريقة المعتبر صحح المختبر فهم الخبر عنهم ، وأنا في مزاولتهم ومقاساتهم فتارةً لى اليد عليها ، وتارة لها علي، والله تعالى المستعان على حسن مجاورته هذه الرفقة إلى حين . ثم إنى استهديت هذا الشيخ سبيل السياحة استهداء حريص عليها مشوق اليها ، فقال : إنك ومن هو بسبيلك من مثل سياحتط لمصدود ، وسبيله عليك وعليه لسدود ، أو يسعدك التفرد وله موعد مضروب لن تسبقه ، فإقتنع بسياحة مدخولة بإقامة تسيح حيناً ، وتخالط هؤلاء حيناً ، فمتى تجردت للسياحة بكنة نشاطك ، وافقتك وقطعتهم ، وإذا حننت نحوهم انقلبت إليهم وقطعتني حتى يأتى لك أن تتولى براءتك منهم ، فرجع بنا الحديث إلى مساءلته عن إقليم إقليم مما أحاط بعلمه ، ووقف عليه خبره ، فقال لي : إن حدود الأرض ثلاثة ، حد يحده الخافقان وقد أدرك كنهه وترامت به الأخبار الجلية المتواترة ، والغريبة يجل ما يحتوى عليه وحدان غريبان ، حد المغرب ، وحد قبل المشرق ، ولكل واحد منهما صقع قد ضرب بينهما ، وبين عالم البشر حد محجور لن يعدوه إلا الخواص منهم ، المكتسبون منه ، لم يتأت للبشر بالفطرة ، ومما يفيدها الاغتسال في عين خرارة جوار عين الحيوان الراكدة ، إذا هدى إليها السايح فتطهر بها وشرب من فراتها سرت في جوارحه منة مبتدعة يقوى بها على قطع تلك المهام ، ولم يترسب في البحر المحيط ، ولم يكأده جبل قاف ، ولم تدهدهه الزبانية مدهدهة إلى الهاوية فاستزدناه شرح هذه العين فقال : سيكون قد بلغكم حال الظلمات المقيمة بناحية القطب فلا يستطيع عليها الشارق في كل سنة إلى أجل مسمى أنه من خاضها ولم يحجم عنها ، أفضى إلى فضاء غير محدود ، قد شحن نوراً ، فيعرض له أول شيء عين خرارة تمد نهراً على البرزخ من اغتسل منها خف على الماء ، فلم يرجحن إلى الغرق ، وتقمم الشواهق غير منصب حتى تتلخص إلى أحد الحدين المنقطع عنهما ، فاستخبرناه عن الحد الغربي لمعاقبة بلادنا إياه ، فقال : إن بأقصى المغرب بحراً كبيراً حامئاً قد سمي في الكتاب الإلهي عيناً حامئة ، وإن الشمس تغرب من تلقائها ، وممد هذا البحر من إقليم غامر فات التحديد رحبه لا عمار له إلا الغرباء يطرؤون عليه والظلمة معتكفة على أديمه ، وانما ينمحل المهاجرون إليه لمعة نور مهما جنحت الشمس للوجوب وأرضه سبخة كلما أهلت بعمار نبت لهم فابتنى بها آخرون ، يعمرون فينهار ويبنون فينهال . وقد أقام الشجار بين أهله بل القتال فأينما طائفة عزت استولت على عقر ديار الآخرين ، وفرضت عليهم الجلاء تبتغي قراراً ، فلا يستخلص إلا خسارا ، وهذا ديدنهم لا يفترون وقد تطوق هذا الإقليم كل حيوان ، ونبات ، لكنها إذا استقرت به ورعته ، وشربت من مائه ، غشيته غواش غريبة من صورها فترى الإنسان فيها قد جلله مسك بهيمة ونبت عليه أثيث من العشب ، وكذلك حال كل جنس آخر ، فهذا أقليم خراب سبخ مشحون بالفتن ، والهيج ، والخصام ، والهرج ، يستعير البهجة من مكان بعيد . وبين هذا الإقليم وإقليمكم أقاليم أخرى لكن وراء هذا الإقليم مما يلي محط أركان السماء إقليم شبيه به في أمور منها أنه صفصف غير آهل إلا من غرباء واغلين ، ومنها أنه يسترق النور من شعب غريب ، وإن كان أقرب إلى كوة النور من المذكور قبله ، ومن ذلك أنه مرس قواعد السماويات ، كما أن الذي قبله مرس قواعد هذه الأرض ومستقر لها ، لكن العمارة في هذا الإقليم مستقرة لا مغاصبة بين واردها للمحاط ، ولكل أمة صقع محدود لا يظهر عليهم غيرهم غلابا ، فأقرب معامره منا بقعة سكانها أمة صغار الجثث ، حثاث الحركات ، ومدنها ثمان مدن ، ويتلوها مملكة أهلها أصغر جثثا من هؤلاء ، وأثقل حركات ، يلهجون بالكتابة ، والنجوم ، والنيرنجات والطلسمات ، والصنائع الدقيقة ، والأعمال العميقة ، مدنها تسع ، ويتلوها وراءها مملكة أهلها متمتعون بالصباحة ، مولعون بالقصف والطرب ، مبرأون من الغموم ، لطاف لتعاطي المزاهر ، مستكثرون من ألوانها ، تقوم عليها امرأة قد طبعوا على الإحسان والخير ، فإذا ذكر الشر اشمأزوا عنه ومدنها ثمانى مدن . ويتلوها مملكة قد زيد لسكانها بسطة في الجسم ، وروعة في الحسن ، ومن خصالهم أن مفارقتهم من بعيد عزيزة الجدوى ، ومقاربتهم مؤذية ومدنها خمس مدن . ويتلوها مملكة تأوى إليها أمة يفسدون في الأرض حبب إليهم الفتك ، والسفك ، والاغتيال ، والمثل مع طرب ولهو ، يملكهم أشقر مغري بالنكب ، والقتل ، والضرب ، وقد فتن كما يزعم رواة أخبارها بالملكة الحسنى المذكور أمرها قد شغفته حباً ، ومدنها سبع مدن . ويتلوها مملكة عظيمة أهلها غالون في الصفة ، والعدالة ، والحكمة ، والتقوى ، وتجهيز جهاز الخير إلى كل قطر ، واعتقاد الشفقة على كل من دنا وبعد ، وبذل المعروف إلى من علم وجهل ، وقد جسم حظهم من الجمال والبهاء ، ومدنها سبع مدن . ويتلوها مملكة كبيرة يسكنها أمة غامضة الفكر ، مولعة بالشر ، فإن جنحت للإصلاح أتت نهاية التأكيد ، وإذا وقعت بطائفة لم تطرقها طروق متهور ، بل توختها بسيرة الداهي المنكر ، لا تعجل فيما تعمل ، ولا تعتمد غير الأناة فيما تأتي وتذر ومدنها سبع مدن . ويتلوها مملكة كبيرة كبيرة منتزحة الأقطار ، كثيرة العمار ، بقعة لا يتمدنون إنما قرارهم قاع صفصف مفصول باثني عشر حداً فيها ثمانية وعشرون محطاً لا تعرج طبقة منهم إلى محط طبقة إلا إذا خلا من أمامهم عن دورهم فسارعته إلى خلافها ، وإن امم الممالك التى قبلها لتسافر ، إليها وتتردد فيها ، ويليها مملكة لم يدرك أفقها إلى هذا الزمان لا مدن فيها ، ولا كور ، ولا يأوى إليها من يدركه البصر ، وعمارها الروحانيون من الملائكة ، لا ينزلها البشر ، ومنها ينزل على من يليها الأمر والقدر ، وليس وراءها من الأرض معمور ، فهذان الإقليمان بهما يتصل الأرضون والسماوات ، ذات اليسار من العالم ، التي هي المغرب ، فإذا توجهت منها تلقاء المشرق رفع لك أقليم لا يعمره بشر ، بل ولا نجم ، ولا شجر ، ولا حجر ، إنما هو بر رحب ، ويم غمر ، ورياح محبوسة ، ونار مشبوبة ، وتجوزه إلى أقليم تلقاءك فيه جبال راسية ، وأنهار ، ورياح مرسلة ، وغيوم هاطلة ، وتجد فيها العقبان ، واللجين ، والجواهر الثمنية ، والوضيعة أجناسها ، وأنواعها ، إلا أنه لا نابت فيه ويؤديك عبوره إلى إقليم مشحون بما خلا ذكره إلى ما فيه ، من أصناف النبات ، نجمة ، وشجرة مثمرة ، وغير مثمرة ، محبة ومبررزة ، لا تجد فيه من يضيء ويضفز من الحيوان ، وتتعداه إلى إقليم يجتمع لك ما سلف ذكره إلى أنواع الحيوانات العجم ، سابحها ، وزاحفها ، ودارجها ، ومدومها ومتولداتها ، إلا أنه لا أنيس فيه ، وتخلص عنه إلى عالمكم هذا . وقد دللتم على ما يشتمله عياناً وسماعاً ، فإذا قطعت سمت المشرق ، وجدت الشمس تطلع بين قرني الشيطان ، فإن للشيطان قرنين ، قرن يطير ، وقرن يسير ، والأمة السيارة منها قبيلتان ، قبيلة فى خلق السباع ، وقبيلة فى خلق البهائم ، وبينهما شجار قائم ، وهما جميعاً ذات اليسار من المشرق ، وأما الشياطين التى تطير فإن نواحيها ذات اليمين من المشرق ، لا تنحصر في جنس من الخلق ، بل يكاد يختص كل شخص منها بصيغة نادرة ، فمنها خلق لمس في خلقين ، أو ثلاثة ، أو أربعة ، كإنسان يطير ، وأفعوان له رأس خنزير ، ومنها خلق هو خداج من خلق مثل شخص وهو نصف إنسان ، وشخص هو فرد رجل إنسان ، وشخص هو كف إنسان ، أو غير ذلك من الحيوان ، ولا يبعد أن يكون التماثيل المختلطه التى يرقمها المصورون منقولة من ذلك الإقليم ، والذي يغلب على أمر هذا الأقليم قد رتب سككاً خمساً للبريد ، جعلها أيضا مسالح لمملكته ، فهناك يختطف من يستهوي من سكان هذا العالم ، ويستثبت الأخبار المنتهية منه ويسلم من يستهوي إلى قيم على الخمسة مرصد بباب الإقليم ، ومعهم الأنباء في كتاب مطوي مختوم ، لا يطلع عليه القيم ، إنما له وعليه أن يوصل جميعه إلى خازن يعرضه على الملك ، وأما الأسرى فيتكلفهم هذا الخازن ، وأما آلاتها فيستحفظها خازناً آخر ، وكلما استأسروا من عالمكم أصنافاً من الناس ، والحيوان ، وغيره ، تناسلوا على صورهم مزاجاً منهما ، وإخراجاً إياها . ومن هذين القرنين من يسافر إلى أقليمكم هذا فيغشى الناس في الأنفاس حتى تخلص إلى السويداء من القلوب ، فأما القرن الذي في صورة السباع من القرنين السيارين فإنه يتربص بالإنسان طروا أذى معتباً عليه فيسفره ويزين له سوء العمل ، من القتل والمثل ، والإيحاش ، والإيذاء فيربى الجور في النفس ، ويبعث على الظلم والغشم ، وأما القرن الآخر منهما فلا زال يناجى بال الإنسان بتحسين الفحشاء من الفعل ، والمنكر من العمل ، والفجور إليه ، وتشويقه إليه ، وتحريضه عليه، قد ركب ظهر اللجاج ، واعتمد على الإلحاح حتى يجره إليه جراً، وأما القرن الطيار فإنما يسول له التكذيب بما لا يرى ويصور لديه حسن العبادة للمطبوع والمصنوع ، ويساود سر الإنسان أن لا نشأة أخرى ، ولا عاقبة للسوي والحسنى ، ولا قيوم على الملكوت ، وإن من القرنين لطوائف تصاقب حدود إقليم وراء إقليمكم تعمره الملائكة الأرضية ، تهدي بهدي الملائكة ، قد نزعت عن غواية المردة ، وتقيدت سير الطيبين من الروحانيين ، فأولئك إذا خالطوا الناس لم يعبثوا بهم ولا يضلوهم ، ويحسن مظاهرتهم على تطهيرهم ، وهى جن وحن ، ومن حصل وراء هذا الإقليم وغل في أقاليم الملائكة ، فالمتصل منها بالأرض إقليم سكنته الملائكة الأرضيون ، وإذا هم طبقتان : طبقة ذات الميمنة ، وهى علامة أمارة ، وطبقة تحاذيها ذات الميسرة ، وهى مؤتمرة عمالة ، والطبقتان تهبطان إلى أقاليم الجن والإنس هويا ، وتمنعان في السماء رقياً ، ويقال إن الحفظة الكرام ، والكاتبين منهما ، وإن القاعد مرصد اليمين من الأمارة وإليه الإملاء ، والقاعد مرصد اليسار من العمالة وإليه الكتاب ، ومن وجد له إلى عبور هذا الإقليم سبيل خلص إلى ما وراء السماء خلوصاً ، فلمح ذرية الخلق الأقدم ولهم ملك واحد مطاع ، فأول حدوده معمور بخدم لملكهم الأعظم ، عاكفين على العمل المقرب إليه زلفى ، وهم أمة بررة لا تجيب داعية نهم ، أو قرم ، أو غلمة ، أو ظلم ، أو حسد ، أو كسل ، قد وكلوا بعمارة ربض هذه المملكة ، ووقفوا عليه وهم حاضرة متمدنون يأوون إلى قصور ومشيدة ، وأبنية سرية تنوف في عجن طينتها حتى انعجن ما لا يشاكل طينة إقليمكم ، وإنه لأجلد من الزجاج ، والياقوت ، سائر مايستبطأ أمد بلائه ، وقد أملى لهم في أعمارهم ، وأنسىء في آجالهم فلا يحرمون دون أبعد الآماد ، ووتيرتهم عمارة الريض طائعين ، وبعد هؤلاء أمة أشد أختلاطاً بملكهم ، مصرون على خدمة المجلس بالمثول ، وقد صئنوا فلم يتبدلوا بالاعتمال ، واستخلصوا للقربى ، ومكنوا من رموق المجلس الأعلى ، والحفوف حوله ، ومتعوا بالنظر إلى وجه الملك وصالا لا فعال فيه ، وحلو تحلية اللطف في الشمائل ، والحسن ، والثقافة في الأذهان ، والنهاية في الإشارات ، والرواء الباهر ، والحسن الرائع ، والهيئة البالغة ، وضرب لكل واحد منهم حد محدود ، ومقام معلوم ، ودرجة مفروضة ، لا ينازع فيها ولا يشارك ، فكل من عداه يرتفع عنه ، أو يسمج نفساً بالقصور دونه ، وأدناهم منزلة من الملك واحد هو أبوهم وهم أولاده وحفدته ، وعنه يصدر إليهم خطاب الملك ومرسومه ، ومن غرائب أحوالهم أن طبائعهم لا تستعجل بهم إلى الشيب والهرم ، وأن الوالد منهم ، وإن كان أقدم مدة فهو أسبغ منه ، وأشد بهجة ، وكلهم مسخرون وقد كفوا الاكتفاء ، والملك أبعدهم في ذلك مذهباً ، ومن عزاه إلى عرق فقد زل ، ومن ضمن الوفاء بمدحه فقد هذى ، قد فات قدر الوصاف عن وصفه ، وحادت عن سبيله الأمثال ، فلا يستطيع ضاربها إلا بتباين أعضاء ، بل كله لحسنه وجه ، ولجوده يد ، يعفى حسنه آثار كل حسن ، ويحقر كرمه نفاسة كل كرم ، ومتى هم بتأوله أحد من الحافين حول بساطه غض الدهش طرفه فآب حسيراً يكاد بصره يختطف قبل النظر اليه ، وكان حسنه حجاب ، وكان ظهوره سبب بطونه ، وكان تجليه سبب خفائه ، كالشمس لو انتقبت يسيراً ، لاستغلت كثيراً ، فلما أمعنت في التجلى احتجبت وكان نورها حجاب نورها ، وإن هذا الملك لمطلع على ذويه بهاءه لا يضن عليهم بلقائه ، وإنما يؤتون من دنو قواهم دون ملاحظته ، وإنه لسمح فياض ، واسع البر ، غمر النائل ، رحب الفناء ، عام العطاء ، من شاهد أثراً من جماله وقف عليه لحظة ، ولا يلفته عنه غمزة ، ولربما هاجر إليه أفراد من الناس فيتلقاهم من فواضله ما ينوبهم ويشعرهم احتقار متاع إقليمكم هذا ، فإذا انقلبوا من عنده انقلبوا وهم مكرهون .

قال الشيخ حي بن يقضان لولا تغربي إليه بمخاطبتك منبهاً إياك لكان لي به شاغل عنك ، وإن شئت اتبعتني إليه والسلام .

بنج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق