الجمعة، 25 ديسمبر 2015

محن الإمام علي صلوات الله عليه

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد الأولين والأخرين ، وخير الماضين والغابرين محمد رسول الله الذي اختاره الله واصطفاه ، وعلى وصيه الذي قال عنه محدثاً اللهم والي من والاه وعادي من عاداه ، علي ابن ابي طالب الذي أوتي الفضل بالإستيجاب والإستحقاق ، وجاهد في سبيل الله حتى اذل بسيفه أهل العناد والشقاق ، وعلى أهل بيتهما الطيبين الطاهرين ، والإئمة من ذريتهم صلوات الله عليهم اجمعين .  

فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله : لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه ، نظر آدم عليه السلام يمنة العرش ، فإذا من النور خمسة أشباح على صورته ركعاً سجدا
فقال : يارب هل خلقت أحداً من البشر قبلي
قال : لا 
قال : فمن هؤلاء الذين أراهم على هيئتي وعلى صورتي
قال : هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ماخلقتك ولا خلقت الجنة ولا النار ولا العرش ولا الكرسي ولا السماء ولا الأرض ولا الملائكة ولا الإنس ولا الجن . 
هؤلاء خمسة اشتققت لهم أسماء من أسمائي ، أنا المحمود وهذا محمد ، وأنا الأعلى وهذا علي ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا الإحسان وهذا حسن ، وأنا المحسن وهذا حسين ، آليت بعزتي ألا يأتيني أحد بمثقال حبة من خردل من حب أحدهم إلا أدخلته جنتي ، وآليت بعزتي أن لا يأتيني أحدهم بمثقال حبة خردل من بغض أحدهم إلا أدخلته ناري ولا أبالي ، يا آدم وهؤلاء صفوتي من خلقي بهم أنجي وبهم أهلك. 


فبعدما قرأنا هذا الحديث العظيم الذي يبين رسول الله فيه فضل أهل بيته صلوات الله عليهم ، أنقل لكم هذا الحديث المحزن لما مر به الإمام علي ابن ابي طالب صلوات الله عليه من محن وأحزان وظلم وعدوان ، فصبرَ صبر أيوب ، وصمت وجعل الله يفعل وينوب . وفي هذا الحديث سيُقرأ التاريخ بالمختصر ، وستبكي القلوب وتنعصر ، وستحزن الأكباد وتنفطر ، فعسى أن نأخذ منه العبرة في الحلم والصبر، والرحمة وسعة الصدر ، وفي الزهد والورع ، وفي التمسك بما أنزل الله وشرع ، فأترككم مع قصة الإمام علي ابن أبي طالب صلوات الله عليه .   


عن محمد بن سلام ،
بإسناده عن علي صلوات الله عليه :
انه ذكر المواطن التي امتحن فيها بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله . 
فقال : وأما ما امتحنت بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله [ في سبعة مواطن : فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنّه ونعمته صبوراً .
أما أولهن : [ فإنه لم يكن لي خاص آنس به ولا أستأنس إليه ولا أعتمد عليه ولا أتقرب إلى الله بطاعته ، وأبتهج به في السراء ، ولا أستريح إليه في الضراء غير رسول الله صلوات الله عليه وآله ، فإنه هو رباني صغيراً ، وبوأني كبيراً ، وكفاني العيلة وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ، وكفاني المكسب وعال لي النفس والأهل والولد مما خصني الله عز وجل من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عنده فنزل بي من وفاة رسول الله صلوات الله عليه وآله مالم تكن الجبال لو حملته تحمله ، ورأيت أهل بيته بين جازع لا يملك جزعه ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح مانزل به أذهب الجزع صبره ، وأذهب عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، وبين القول والإستماع ، وسائر بني عبدالمطلب بين معز لهم يأمر بالصبر ، وبين مساعد لهم بالبكاء وجازع لهم لجزعهم .
وحملت نفسي على الصبر عند وفاته ، ولزمت الصمت والأخذ فيما أمرني به من تجهيزه ، وغسله وتحنيطه ، وتكفينه ، والصلاة عليه ، ووضعه في حضرته وجمع أمانة الله ، وكتابه ، وعهده الذي حُملناه إلى خلقه ، واستودعناه لهم ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة
[ ولا هائج زفرة ] ولا لاذع حرقه ولا جليل مصيبة حتى أديت في ذلك الواجب لله ولرسوله عليّ ، وبلغت منه الذي أمرني به رسول الله صلوات الله عليه وآله .
وقد كان رسول الله صلوات الله عليه وآله أمّرني في حياته على جميع أمته ، وأخذ لي على من حضرني منهم البيعة بالسمع والطاعة لأمري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب ، وكنت المؤدي اليهم عن رسول الله أمره لا يختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة رسول الله صلوات الله عليه وآله ولا بعد وفاته .
ثم أمرهم رسول الله صلوات الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع أسامة عند الذي حدث به من المرض الذي توفاه الله فيه فلم يدع أحداً من أبناء قريش ولا من الأوس والخزرج ولا من غيرهم من سائر العرب ممن يخاف نقضه بيعتي ومنازعته إياي ، ولا أحداً يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أخيه ، أو أبيه ، أو حميمه إلا وجهه في جيش أسامة ، لا من المهاجرين ولا من الأنصار وغيرهم من المؤلفة قلوبهم ، والمنافقين لتصفو لي قلوب من بقي معي بحضرته ولئلا يقول لي قائل شيئاً مما اكرهه ولا يدفعني دافع عن الولاية ، والقيام بأمور رعيته وأمته من بعده .
ثم كان آخر ماتكلم به النبي صلوات الله عليه وآله في شيء من أمر أمته ، ان قال : يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أُنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقديم ، وأوعز فيه غاية الإيعاز ، وأكد فيه أبلغ التأكيد .

فلم أشعر بعد أن قبض رسول الله صلوات الله عليه وآله إلا برجال من بعث أسامة ، وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، وخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله صلوات الله عليه وآله فيما أنهضهم إليه ، وأمرهم به رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وتقدم اليهم فيه ملازمة أميرهم والسير معه تحت رايته حتى ينفذ الى الذي انفذه اليه ، وخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا مبادرين إلى عهده الله ورسوله ، فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجت فيه أصواتهم ، واختلفت فيه آراؤهم من غير مؤامرة ، ولا مناظرة لأحد منا بني عبدالمطلب أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ، وفعلوا ذلك وأنا برسول الله صلوات الله عليه وآله مشغول عن سائر الأشياء لأنه كان أهمها إلي ، وأحق ما بدأ به عنها عندي .

وكانت هذه من الفوادح من أفدح مايرد على القلب مع الذي أنا فيه من عظيم المحنة ، وفاجع المصيبة ، وفقد من لا خلف لي منه إلا الله عز وجل ، فصبرت منه .

ولم يزل القائم بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله يلقاني معتذراً في كل أيامه يلوم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله ، فكنت أقول : تنتهي أيامه ثم يرجع إليّ حقي الذي جعله الله لي عفوا وهيناً من غير أن أحدث في الإسلام مع قرب عهده في الجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة لعل قائلاً أن يقول فيها : نعم ، وقائلا يقول : لا،
وجماعة من خواص أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله أعرفهم بالنصح لله ولرسوله والعلم بدينه وكتابه يأتوني عوداً وبدءاً ، وعلانية وسراً فيدعونني الى أخذ حقي ويبذلون لي أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إليّ حق بيعتي في أعناقهم ، فأقول رويداً ، وصبراً قليلاً لعل الله أن يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة دمٍ ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل ، حتى قال كل قوم : منا أمير ومنكم أمير وما طمعوا في ذلك إلا إذ تولى الأمر غيري .

فلما آتت وفاة هذا القائم ، وانقضت أيامه صير الأمر من بعده لصاحبه ، وكانت هذه أخت تلك محلها من القلوب محلها ، فاجتمع إليّ عدة من أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله . فقالوا فيها مثل الذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الأول ، صبراً واحتساباً خوفاً من أن تفنى عصابة ألفها رسول الله صلوات الله عليه وآله ، باللين مرة ، وبالشدة أخرى لقد كان في تأليفه إياهم إن كان الناس في الكزم والشبع والزي واللباس والوطاء والدثار .
ونحن أهل بيت محمد لا سقوف لبيوتنا ولا ستور ولا أبواب إلا الجرائد وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا ، يتداول الثوب الواحد منا في الصلاة أكثرنا ، ونطوي الأيام والليالي جوعاً عامتنا ، وربما أتانا الشيء مما أفاء الله تعالى علينا ، وصيرة لنا خاصة دون غيرنا فيؤثر به رسول الله صلوات الله عليه وآله أرباب النعم والأموال تأليفاً منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصابة التي ألفها رسول الله صلوات الله عليه وآله ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها [ دون بلوغها ] لأني لو نصبت نفسي ودعوتهم الى نصرتي كانوا مني وفيّ على امور :

إما متبع يقاتل معي ، أو ممتنع يقاتلني ، أو خاذل لي بتقصيره وخذلانه ، فيحل بهم من مخالفتي ماحل بقوم موسى ( في مخالفة هارون وقد علموا أن محلي من رسول الله صلوات الله عليه وآله محل هارون من موسى ) فرأيت تجرع الغصص وردّ أنفاس الصعداء أهون علي من ذلك ، وكان أمر الله قدراً مقدورا .

ولو لم أتق ذلك وطلبت بحقي لعلم من بحضرتي أني كنت أكثر عدداً ، وأعز عشيرة ، وأمنع داراً ، وأقوى أمراً ، وأوضح حجة ، وأكثر في الدين مناقباً وآثاراً ، لسابقتي وقرابتي ووزارتي فضلا عن استحقاق ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة لي في أعناقهم ممن تناولها .
ولقد قبض رسول الله صلوات الله عليه وآله و ولاية الامة في يديه وفي بيته لا في أيدي من تناولها ولا في أهل بيته بل في أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وهم أولو الأمر من بعده من غيرهم في جميع الخصال .
ثم إن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الامور ومصادرها ، فيصدرها عن رأيي وأمري ، ولا يكاد يخص بذلك أحداً غيري ، ولا يطمع في الأمر بعده سواي ، فلما آتته ميتته على فجأة بلا مرض كان قبلها ، ولا أمر أمضاه في صحة بدنه لم يشك الناس إلا أني قد استرجعت حقي في عاقبته بالمنزلة التي رجوت والعاقبة التي كنت التمست ، وأن الله عز وجل سيأتيني بذلك على [ أحسن ] ما رجوت وأفضل ما أملت .
وكان فعله الذي ختم به أمره أن سمى خمسة أنا سادسهم لم يسق واحد منهم معي قط في حال توجب له ولاية الأمر من قرابة ولا فضيلة ، ولا سابقة ، ولا لواحد منهم مثل واحدة من مناقبي ، ولا أثر من آثاري ، فصيرها شورى بيننا ، وصير ابنه فيها حاكماً علينا وأمره بضرب أعناق الستة الذين صير فيهم إن هم أبوا أن يختاروا واحداً منهم ، وكفى بالصبر على هذه .
فمكث القوم أياماً كل يخطبها لنفسه ، وأنا ممسك لا أقول في ذلك شيئاً ، فإذا سألوني عن أمري ناظرتهم في أيامي وأيامهم ، وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم مايجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله صلوات الله عليه وآله فيّ إليهم وتأكيده ما أخذ لي من البيعة عليهم ، فإذا سمعوا ذلك مني دعاهم حب الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي ، والركون الى الدنيا وزخرفها الى الاقتداء بالماضين قبلهم وتناول مالم يجعل الله عز وجل لهم ، فإذا خلى بي الواحد بعد الواحد منهم ، فذكرته أيام الله وماهو قادم عليه وصائر اليه ، التمس مني شرط طائفة من الدنيا أصيرها له .
فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله جل ذكره وسنة رسول الله صلوات الله عليه وآله ، وإعطاء كل امرىء ماجعله الله عز وجل له ، شكك القوم مشكك فأزالها الى ابن عفان طمعاً في الشحيح معه فيها ، وابن عفان رجل لم يستوفي ، ولا بواحد ممن حضر فضيلة من الفضائل ولا مأثرة من المآثر .
ثم لا أعلم القوم ما أمسوا في يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وأحال بعضهم على بعض كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه .
ثم لم تطل الأيام بالسفير لابن عفان حتى كفره ، ومشى الى أصحابه خاصة ، وأصحاب محمد عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب الى الله من فتنته .
وكانت هذه أكبر من أختيها ، وأفضع ، واخرى أن لا يصير عليها ، فلم يكن عندي فيها إلا الصبر ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم الذي عقدوا فيه لابن عفان ماعقدوه . وكل راجع عنه ، يسألني خلع ابن عفان ، والقيام في حقي ، ويعطيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي ، أو يرد الله اليّ حقي ، وبعد ذلك مراراً كثيرة فيأتوني في ذلك وغيرهم . فوالله ما منعني منها إلا ما منعني من أختيها قبلها ، ورأيت الإبقاء على من بقي أبهج بي وأسر .
ولو حملت نفسي على ركوب الموت لركبته ، ولقد علم من حضر ، ومن غاب من أصحاب محمد صلوات الله عليه وآله إن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة من الماء في اليوم الحار من ذي العطش الصديّ ولقد كنت عاهدت الله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على ذلك لله ولرسوله ، فتقدموني وبقيت أنتظر أجلي ، فأنزل الله عز وجل فينا { من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلا } 
وما أسكتني عن ابن عفان إلا أني علمت أن أخلاقه فيما أُخبرت عنه مالا تدعه حتى تستدعي الأقارب فضلاً عن الأباعد في خلعه وقتله ، فصبرت حتى كان ذلك ، ولم أنطق فيه بحرف من لا ، ولا نعم .
ثم أتاني الأمر - علم الله - وأنا له كاره لمعرفتي بالناس وبما يطمعون فيه مما قد عوّدوه ، وأن ذلك ليس لهم عندي ، فكان ذلك كذلك .
واتاني فيه من أتاني فلما لم يجدوه عندي وثبوا المرأة عليّ ، وأنا ولي أمرها ، والوصي عليها ، فحملوها على الجمل ، وشدوها على الرحل ، واقبلوا بها تخبط الفياني وتقطع الصحاري ، وتنبحها كلاب الحوأب وتظهر فيها علامات الندم - في كل ساعة ، وعند كل حالة - في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم لي في حياة الرسول صلوات الله عليه وآله أولاً ، حتى أتوا بها بلدة قليلة عقولهم وعارية آراؤهم .
فتوقفت من أمرهم على اثنتين ، كلاهما فيهما المكروه : إن كففت لم يرجعوا ، وإن أقدمت كنت قد صرت للذي كرهته ، فقدمت الحجة في الإعذار والإنذار ، ودعوت المرأة الى الرجوع الى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الذي حملوها عليه الى الوفاء ببيعتهم والترك لنقضهم عهد الله وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه منها ، وناظرت بعضهم فانصرف وذكرته فذكر .
ثم أقبلت على الباقين بمثل ذلك فما ازدادوا إلا جهلاً ، وتمادياً وعتواً وأبو إلا ماصاروا اليه ، وكانت عليهم الدايرة والكرة وحلت بهم الهزيمة والحسرة وفيهم الفناء ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بُداً ، ولم يسعني إذ تقلدت الأمر آخراً مثل الذي وسعني فيه أولاً من الإغضاء والإمساك .
ورأيت أني إن أمسكت كنت معيناً لهم على ماصاروا اليه بإمساكي ، وماطمعوا فيه من تناول الأطراف وسفك الدماء وهلاك الرعية وتحكيم النساء الناقصات العقول على الرجال كعادة بني الأصفر ومن مضى من ملوك سباء والامم الخالية . فأصير الى ما كرهت أولاً إن أهملت المرأة آخراً ، وما هجمت على الأمر إلا بعد أن قدمت ، وأخرت ، وراجعت ، وأزمعت ، وسايرت ، وراسلت ، وأعذرت ، وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شيء التمسوه مما لا يخرج من الدين ، فلما أبو إلا تلك تقدمت فتمم الله فيهم أمره ، وكان الله عز وجل عليهم شهيداً.
ثم تحكيم الحكمين فيّ وفي ابن آكلة الأكباد معاوية وهو طليق ابن طليق ، لم يزالا يعاندان الله ورسوله والمؤمنين مذ بعث الله عز وجل علينا محمداً صلى الله عليه وآله الى أن فتح الله علينا مكة ، فأخذت بيعته ، وبيعة أبيه لي في ذلك اليوم في ثلاث مواطن ، وأبوه بالأمس أول من أخذ بيدي يسلم عليّ بإمرة المؤمنين ويحضني على النهوض في أخذ حقي من الماضين ، وهو في كل ذلك يجدد لي بيعته كلما أتاني ، ثم قالت هذا عليّ مما يطعم من أموال المسلمين وتحكم عليّ ليستديم مايفنى بما يفوته مما يبقى .
وأعجب العجب إنه لما رأى الله عز وجل قد رد اليّ حقي ، وأقره في معدنه عندي ، فانقطع طمعه أن يصبح في دين الله تعالى راتعاً ، وفي أمانته التي حملها حاكماً .
اعتمد على عمرو بن العاص فاستماله بالطمع ، فمال اليه . ثم أقبل بعد أن أطعمه مصر ، وحرام عليه أن يأخذ الفيء درهماً واحداً فوق قسمته ، وعلى الراعي إيصال درهم اليه فوق حقه ، والإغضاء له من غير حقه ، وأخذ يخبط البلاد بالظلم فيطؤها بالغشم ، فمن تابعه أرضاه ، ومن خالفه ناواه ثم توجه اليّ ناكثاً عائثاً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً . والأنباء تأتيني والأخبار ترد علي .
فأتاني أعور ثقيف ، فأشار علي أن أولين الناحية التي هو بها لأرادية ذلك ، وكان في الذي أشار به علي الرأي فيأمر الدنيا لو وجدت عند الله مخرجاً لي توليته ، وأصبت لنفسي فيما أتيت من ذلك عذراً ، فأعلمت فكري في ذلك ، وشاورت فيه من أثق به وبنصيحته لله ولرسوله وللمؤمنين وكان رآيه في ابن آكلة الأكباد كرأيي فيه ينهاني عن توليه ، وحذرني أن أدخله في أمر المسلمين ، فلم يكن الله ليعلم أني متخذ المضلين عضداً ، فوجهت اليه أخا بجيلة ، وأخا الأشعريين مرك وكلاهما ركنا الى دنياه واتبعا هواه. 

فما لم اره يزداد فيما هتك من محارم الله عز وجل إلا تمادياً شاورت من معي من أصحاب محمد صلوات الله عليه وآله البدريين الذين ارتضى الله أمرهم للمسلمين فكل يوافق رأيه رأيي في غزوته ، ومحاربته ، ومنعه مما مد اليه يده .
فنهضت اليه بأصحابي انفذ اليه من كل موضوع كتبي ، واوجه اليه من كل ناحية رسلي أدعوه الى الرجوع عما هو فيه والدخول فيما دخل فيه الناس معي ، فمكث يتحكم علي الأحكام ويتمنى علي الأماني ، ويشترط علي شروطاً لا يرضاها الله ولا رسوله ولا المسلمون .
فشرط علي في بعضها أن أدفع اليه قوماً من أصحاب محمد صلوات الله عليه وآله أخيار أبرار فيهم عمار بن ياسر ، رحم الله عماراً ، وأين مثل عمار ؟ لقد رأيناه مع رسول الله صلوات الله عليه وآله مايتقدم منا خمسة إلا كان عمار سادسهم ولا أربعة إلا كان خامسهم ، فاشترط أن يقتلهم ويصلبهم .
وانتحل دم عمثان ، ولعمر الله ما آلب على عثمان ولا حمل الناس على قتله إلا هو ، وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن .
فلما لم أجبه إلى ما اشترط من ذلك كر علي الدنيا مستعلياً بطائفة حُمر لا عقول لا لهم ولا بصائر ، فأعطاهم من الدنيا ما استمالهم به ، فحاكمناه الى الله بعد الإعذار والإنذار .
فلما لم يزده ذلك إلا تمادياً لقيناه بعادة الله التي عودنا من النصر على عدوه وعدونا ، وراية رسول الله صلوات الله عليه وآله معنا ، فلم نزل نقلله ونقلل حزبه حتى قضى الموت اليه وهو معلم برايات أبيه التي لم أزل أقاتلها مع رسول الله صلوات الله عليه وآله في كل موطن .
فلما لم يجد من القتل بداً إلا بالهرب ركب فرسه وقلب رأسه لا يدري كيف يصنع واستغاث بعمرو بن العاص فأشار اليه بإظهار المصاحف ورفعها على الأعلام والدعاء لما فيها ، وقال له : إن ابن أبي طالب ومن معه أهل بصيرة ورحمة ، وقد دعوك الى كتاب الله أولاً وهم يجيبونك اليه آخراً ، فأطاعه فيما أشار به عليه إذ رأى أنه لا منجي له من القتل والهرب ، فرفع المصاحف يدعوا إلى مافيها بزعمه .



فمالت الى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي
 [ بعد فناء خيارهم بجدهم في قتال أعدائهم على بصائرهم ]، وظنوا بابن آكلة الأكباد الوفاء بما دعى اليه ، وأسرعوا الى دعوته ، وأقبلوا إليّ بأجمعهم يسألون إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص ، وهما الى النكث أقرب منهما الى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ، ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا الإجابة ، وأخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فالحقوه بابن عفان أو فادفعوه الى معاوية .
فجهدت _يعلم الله جهدي _ ولم أدع علم غاية في نفسي وأردت أن يخلوني ورأيي ، فلم يفعلوا ، ودعوتهم اليه فلم يجيبوا لي ما خلا هذا الشيخ وحده وعصبة من أهل بيته قليلة - وأومأ الى مالك الاشتر النخعي - فوالله ما منعني من أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذا وهذا - وأومأ بيده الى الحسن والحسين عليهما السلام - فينقطع نسل رسول الله صلوات الله عليه وآله وذريته ، وأن يقتل هذا وهذا وأومأ بيده الى محمد بن الحنيفة وعبدالله بن جعفره - فانه لولا مكاني لكان ذلك . 

فلذلك صبرت وصرت الى ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عز وجل .
فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الأمر بالأهواء ، وتخيروا في الأحكام والآراء ، وتركوا المصاحف ومادعوا اليه من حكم القرآن ودعوا الى التحكيم ، فأبيت ان أحكم في دين الله سبحانه أحداً إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه .

فلما أبوا إلا ذلك أردت من أصحابي أن يجعلوا الحاكم رجلاً من أهل بيتي ممن أرضى رأيه وعقله ، وأثق بدينه ونصحه ومودته ، وأن يكون الحكم بكتاب الله الذي دعوا اليه ، وعلمت أن كتاب الله كله يشهد لي على معاوية ، فأبى علي أصحابي ، وأقبلت لا اسمّي رجلاً إلا امتنع علي ابن هند ، ولا أدعوا الى شيء من الحل إلا أدبر عنه ، ولا يسومنا خسفاً إلا تابعه أصحابنا عليه .
فلما أبوا إلا ما أراد من ذلك ، تبرأت الى الله عز وجل منهم ، فقلدوا الحكم امرءاً كان صبغ في العلم ، ثم خرج منه ، وقد عرفت وعرفوا أولاً ميله الى ابن هند ، وأخذه من دنياه ، فحذرته ، وأوصيته ، وتقدمت اليه في أن لا يحكم إلا بكتاب الله الذي دعى القوم اليه ، فخدعه ابن العاص خديعة سارت في شرق الأرض وغربها ، وأظهر المخدوع عليها ندماً .

وكان رسول الله صلوات الله عليه وآله عهد إليّ أن اقاتل في آخر أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويقرأون القرآن يعرفون بخلافهم إياي ومحاربتهم لي ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فيهم ذو الثدية ، يختم الله بقتلهم لي السعادة ، فلما انصرفت من ابن هند بعد أمر الحكمين ، أقبل أصحابي بعضهم على بعض باللائمة فيما صاروا اليه من تحكيم الحاكمين فلم لم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلا أن قالوا : كان ينبغي لأميرنا أن لا يتابع ما أخطأنا من رأينا وأن يمضي بحقيقة رأيه على قتل من خالفه منا ، فقد ظلم بمتابعته إيانا وطاعته في الخطأ لنا ، فقد حل لنا دمه فاجمعوا على ذلك من حالهم ، وخرجوا ناكسين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم أن لا حكم إلا لله .

ثم تفرقوا فرقاً ، فرقة بالنخيلة ، وفرقة بحروراء ، وفرقة راكبة رؤوسها تخبط الأرض حتى عبرت دجلة ، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته ، فمن تابعها استحيت ، ومن خالفها قتلت .
فخرجت إلى الأولتين واحدة بعد الأخرى ، أدعوهم الى طاعة الله ومتابعة الحق والرجوع اليه ، فأبتا إلا السيف لا يقنعهم غيره .
فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتها الى الله ، فقتل الله هذه وهذه ولولا مافعلوا وكانوا لي ركناً قوياً وسداً منيعاً ، فأبى الله إلا ما صاروا اليه ، وكانوا قد سارعوا في قتل من خالفهم من المسلمين .

ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ، ووجهت اليها رسلاً تترى ، وكانوا من جلّة أصحابي ، وأهل الثقة منهم ، فأبت إلا اتباع اُختيها ، والإحتذاء على مثالهما ، وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين وتتابعت الأخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت اليهم دجلة وأوجه اليهم السفراء والنصحاء وأطلب اليهم العتبى بجهدي بهذا مرة ، وبهذا مرة ، وبهذا مرة ، وبهذا مرة ، -وأومأ بيده الى الأشتر والأحنف بن قيس وسعيد بن قيس [ الأرحبي ] والأشعث بن قيس الكندي .

فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله عز وجل عن آخرهم - وهم أربعة آلاف أو يزيدون - حتى لم يبق منهم مخبرٌ .
ثم استخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترون له ثدي كثدي المرأة .

فهذه سبع مواطن ، امتحنت فيها بعد رسول الله صلوات الله عليه وآله ،
وبقيت الاخرى واوشك بها أن تكون .
قالوا : يا أمير المؤمنين وماهذه الاخرى ؟
قال : أن تخضب هذه
- وأشار إلى لحيته -
من هذه 
- وأومأ الى هامته عليه الصلاة والسلام -

فارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، والضجيج في المسجد - الجامع بالكوفة - حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً من الضجيج .

انتهى 
________________________________

فأشهدك الله أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك ، وأن علي ابن أبي طالب وليك ونصيرك " 
فبعد أن نقلت هذا الحديث الذي يدمي القلوب ويعصرها ويحرق الأجفان ويذبلها ، يجب أن أذكر هذا الجزء. 

تنبية : 
لعل من قصر فهمه ، وقل عقله اذا سمع مافي هذا الباب من رغبة علي صلوات الله عليه في أمر الإمامة واحتجاجه على من دفعه عن ذلك يتوهم أن ذلك منه رغبة في الدنيا ، وقد علم الخاص والعام بلا اختلاف منهم زهده كان عليه الصلاة والسلام فيما قبل أن يلي الأمر ، ومن بعد أن وليه .
وإنما كان ذلك منه لأن الإمامة قد عقدها له رسول الله صلوات الله عليه وآله بأمر من الله جل ذكره ، كما ذكرت في غير موضع من هذا الكتاب ، وهي فضيلة من الله عز وجل لمن أقامه لها ، فليس ينبغي لمن آثره الله عز وجل بها واختصه بفضلها رفضها ولا دفعها ولا التخلف عنها ، كما لا ينبغي مثل ذلك أن يفعله من آثره الله عز وجل بفضل النبوة من أنبيائه ، وقد قاموا بذلك صلوات الله عليهم أجمعين مغتبطين بذلك راغبين فيه ، وجاهدوا عليه وبذلوا أنفسهم دونه.
وليس سبيله في ذلك عليه الصلاة والسلام سبيل من لم يعهد اليه رسول الله صلوات الله عليه وآله ولا أمره به ولا أقامه له ، والحجة في هذا وفي تحكيم الحكمين وقتال من قاتله تخرج عن حد هذا الكتاب ، وقد ذكرنا ذلك في غيره .



بنج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق